العرب أمّة كبيرةٌ في جاهليّتها، فلما جاء الإسلام زادَها مجداً وشرَفاً فأخرجها من الظلمات إلى النور، ومن الخمول إلى العزّ والجاه العريض. ولم يكن المجتمع العربيّ على عهد الجاهليّة، وعلى عكس ما يتوهّم بعض الناس، مجرّد غاراتٍ مشنونة، وحروب مدمّرة ليس لها انتهاءٌ، كما وقع في حرب البسوس، ولكنْ كان في العرب عقلاء وحكماء، ومن ثَمَّ كان فيهم حُكّام يحكُمون فيما كان يشجُر بينهم، بالعقل والحكمة. ولم يكونوا يعمِدون إلى شنّ الحروب إلاّ في ضرورات قصوى، وأمّا القتل المنفرد فكان يقوم به لصوص وصعاليك كانوا ربما قطعوا الطريق على المارّة فكان فعلاً منعزلاً. وقد اشتهر منهم حكماء كان المختلفون في شيء يفزعون إليهم ليحكموا بينهم فيه، على أن يرضَوْا بما كان الحَكَمُ يحكُمُ ويسلِّموا به تسليماً. واشتهر من هؤلاء الحكّام العرب طائفةٌ منهم نذكر اليوم أحدَ مشاهيرهم وهو عامر بن الظَّرِبِ العَدْوانيّ، وكان حكيمَ العرب وقاضِيَها الأوّل على زمنه. وقد عرَضتْ له قضيّة معقّدة لم يسبق أن عرضتْ له فحار فيها، وذلك أنّه استُقْضِيَ، يوماً، في أمرِ خُنْثى، فَحَارَ. غير أنّه اهتدى، آخرَ الأمر، إلى الْحُكْم السليم بعد أن ساعدتْه أمَةٌ له في الرأي، فيما يروُون. وقد زعم أبو هلال العسكريّ أنّ عامر بن الظرب العدوانيّ هو أوّل من قضَى في الخنثى، ويتفق معه كلّ الأخباريين أيضاًً. وقد قيل إنّه قضى ليلَهُ كلَّهُ أَرِقاً حين احتكموا إليه في ميراث خنثى: أيكون له، أو لها، نصيب الذكر أم نصيب الأنثى؟ إلى أن هدَتْه إلى الْحُكم أَمَتُه سخيلة فيما يزعمون. وقد جرى حكم الإسلام في الخنثى، في الميراث، على ما جرى عليه في حُكم عامر بن الظرب وهو شرف عظيم لعقله... وقد قيل: إنّه أوّلُ مَن قُرِعتْ له العصا. وتزعم الأخبار أنّه عُمِّر طويلاً فبلغ ثلاثمائة سنة، فبدأ حين طَعَنَ في السنّ وخرِفَ يُنكِر من عقله شيئاً عند إصدار الحكم بين المتخاصمين إليه، فقال لبنيه: اجعلوا لي أَمارةً أعرفها، فإذا زُغْتُ فسمعتُها رجعت إلى الحكم الصائب، فكان يجلس أمام بيته، ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا، فإذا لاحظ أنّه زاغ أو هفا، قرَع له الجفنةَ بالعصا فرجع إلى الصواب. وكان قاضياً وحكَماً للعرب في سوق عكاظ، وله حِكم وأقوال تدلّ على عقل هذا الحكيم الكبير، منها: الرأيُ نائمٌ، والهوى يقظانُ، فمِن هنالك يغلِبُ الهوى الرأيَ؛ دعُوا الرأيَ يَغِبّ حتّى يختمرَ، وإيّاكم والرأيَ الفطيرَ! ومنه مخاطبتُه لامرأته لتنصح لابنتِها وهي مقبلة على الزواج: مُرِي ابنتَكِ ألاّ تَنْزِلَ مَفازةً إلاّ ومعها ماء: فإنّه لِلأعلَى جَلاَء، ولِلأسفل نَقَاء. وهو أحَدُ مَن حرّم الخمرَ في الجاهليّة. وعلى أنّ الأَخباريّين يختلفون، كبعضِ دَأْبِهم، فيزعمون أنّ قرْعَ العصا إنّما كان لأكثَم بنِ صَيفِي، في حينَ زعم بعضهم الآخرُ أنّ أوّلَ من قُرعت له العصا كان سعد بن مالك الكِنانيّ، غير أنّ أغلب الروايات تجعل ذلك لعامِرِ بْنِ الظَّرِب.