من الزيارات الأولى لدول اتحاد «البولنكس»، والذي أعتقد أن هذا الاتحاد تلاشى مع حلول الاتحاد الأوروبي، حينها كان يضم بلجيكا وهولندا ولكسمبورغ، وقفت على شارع حدودي في «بلدة Baarle-Nassau» في جنوب هولندا، حيث يمكنك أن تضع رِجْلاً في هولندا، ورِجْلاً في بلجيكا، ساعتها أصابتني الدهشة، وبدأت أتأمل حال الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية، وبين الحدود محكمة الإغلاق بين الدول العربية، وتخيلت لو أن هذا الشارع المفتوح والمناصف بين إحدى دولنا العربية، لكنّا شاهدنا العجب، من تهريب، ومن تسلل، ومن جعله مكاناً لتلاقي العشاق من البلدين المتجاورين، وغيرها من الأمور التي نختص بها وحدنا، معشر العرب، حيث خط العرض عندنا يعني الشرف، وخط الطول نخطه للغريم ليمسحه، بعدها ندخل في عراك معه، الأوروبيون لا تعني لهم خطوط الطول والعرض، أو الحدود غير مزيد من التقدير والاحترام للآخر، وضمان خصوصيته وحريته، حيث لا يلزم أن تقوم حرب بسبب شبر من الأرض متنازع عليه، ويمكن التوصل لحل جغرافي أو سياسي له، ويمكن استغلاله لمصلحة الأطراف، فيما يسمى بتبادل المصالح وتقاسم المنافع، في حين عند العرب، الحل لا بد وأن يكون تاريخياً، ونهائياً، تيمناً بشعارهم القديم، لنا الصدر دون العالمين أو القبر، لكن في النهاية نخسر ما هو قدامنا ووراءنا.
أقول ذلك كلما سألت عن الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي الملغاة، وتعطلت بين الحدود العربية المشبكة والمسورة، والمبني عليها جدران إسمنتية، وأسلاك حديدية وزجاج مكسور مدبب، أو تلك الحدود المنسية بين كثبان رمال صحاريهم الشاسعة، والتي تبدو مهجورة لا ينبح فيها كلب في الظهيرة، أو تلك الملغمة بمكاتب جمارك، وحرس حدود، ودوريات مدولبة، وكلها مناطق استرزاق فوق الراتب الهزيل، ونقاط لـ«حماية» المهربين، لا حمايتها منهم.
في دول أوروبا كثيراً ما تجد مقهى يضع كرسياً في فرنسا، والطاولة في لكسمبورغ أو مشربين واحداً في إيطاليا، والآخر في سويسرا، كراسيهما مشتركة، وتتقارع فيهما الأنخاب في صحة التلاقي والوئام الدائم، قد تجد محلاً سياحياً يبيع التذكارات والبطاقات لهولندا، وجاره البلجيكي مقابل له يبيع تذكارات وأشياء تفرح السياح الزائرين لبلجيكا، بينهما فقط خط بالصبغ الأبيض يفصل الأرضية، كحدود وهمية، لكنك في تلك المدن الأوروبية التي تعيش حياتها، وكأنها مثل الأخوات في البيت الواحد، لن تجد صاحب المشرب يحسد جاره الآخر، ولن يعد عليه في الطالعة والنازلة الأقداح الفارغة، ولن يبيع بخسارة، لكي يسرق زبائن جاره، ولن يرسل له «شبّيحة أو فتوة أو هجّانة أو بلطجية أو زعران أو صعاليك أو متبلين» لكي يهرسوا له محله، أو يضعوا له حقيبة مخدرات، أو يحرقوا له دكانه أو يجبروه على البيع بالرخيص ليشتريه الجار المتسلط، ويكتب على بابه فيما بعد لافتة إيمانية «هذا من فضل ربي». وغداً نكمل..