هي هنيهات قليلة، لكن يتسع لها القلب والوقت، لتقضيها بين رفوف مكتبة البيت، في عصر يرمي نحو تناثر دقائق العمر، وفصول من بهاء يمر على وجل، وتشرذم الحياة يغدو أشد وجلاً، وحين تشعر بجمود السويعات، تراها وكأنك في خضم عالم آخر، لا يشعر بك أحد، وأنت بين رفوفها المصنفة، ووجوه لأغلفة رحل أصحابها من ذاكرة الحياة، أو رحلوا من ذاكرة المكان، إلا أنهم تركوا خلفهم شيئاً من سماتهم وكتبهم القيمة، تلك الدالة على أفكارهم وإبداعاتهم، ومنها نسيج ذاكرتهم، فمكتبات البيوت ما هي إلا بيوت شامخة بالثقافة، فيطل من خلالها كل من كتب، إذا هي أرواحهم مغلفة بالحب، تعبر حالة الزمن، وتبتكر على ضفاف الحياة مكانها.
سمات ثقافية تنحدر من إرث الحياة، فمكتبات البيوت من أقدم المكتبات، وكانت في العصور الماضية مرتبطة بالملوك والسلاطين، ولازالت تتشكل عبر مفاهيم المثقف، وفضائه المتجسد بالثقافة، بل ترافق أحلامهم ومعاناتهم، وتدشن مثابرتهم على إيجاد الكتب القيمة، لهم فيها ملذات مختلفة الثقافة، ولهم مذاقات وتصورات في الحديث عن مكتباتهم، وأي وصف حين يتحدثون عن كتبها وما تغتني، فما هذه العلاقة الحميمية، التي تروي التناغم الروحي بينهما، وهي حتماً تبقى بينهما، الألفة والصداقة وعبق الزمن، وهي حقائق لا ترحل، وخيالات لا تفل أبداً من الذاكرة المستوحاة من حياة ثقافية لامعة.
لربما لا يعي هذه العلاقة، إلا من يشعر بقيمة مكتبات البيوت، فهي متممة لمعتقدات ثقافية واسعة، وأصول في البحث، والقراءة المتدفقة بالتأمل، فكل هذا الشأن الجميل، هو احتفاء بوقت الحياة، حتى لا يهدر سدى، ولا يتجرد من صورته الحقيقية، فمن الحقيقة، أن لا شيء يضاهي وقت القراءة في الحضور الذهني والروحي.
فالذات القارئة نشأة فكرية جامحة وملهمة للحياة، لا هي وقتية، ولا هي زمنية، يتبناها الوقت كما يراد لها أن تكون، فهي مغلفة بالذات وفضائها الحر، ودونها يبقى الوقت جامداً مملاً، يمرره النسيان، والقراءة ليست استعجاباً أو استعراضية المحتوى، بل هي كل المدارات المنجزة والمبتهجة، وهي آية المثقف المطلع والراسخ بثقافته.
مكتبات البيوت منذ زمن، تمر بصمت مزمن وطويل، وتخفي صمتها الأثير الجميل، ولها حكاياتها الحزينة في الوجد، ولها ما ينبئ بالسحر، بأن في الوقت العصيب ينحني الزمن لها، لتقترب من سحرها الجميل، ومن رموزها، وتقترب من طوافها بين ذاكرة الحياة والكتب، وهي تبدو مشرقة، وكأنها تقول في الوقت العصيب تستبشر بها خيراً.