لعلّ حرصي على تسجيل بقية هذه الوثيقة التي أجمع عليها المثقفون وعلماء الدين عن منظومة الحريّات يعود إلى أهمية العودة إليها كلما حاول بعض الأدعياء أن يعوقوا تطور الأمة الحضاري اعتماداً على فهمهم المغلوط للدين ونقص حصادهم المعرفي، وقد حررتها بدقة بالغة نظراً لخطورتها المرجعية، وعدلت في صياغتها مرّات عدة استجابة للتحفظات التي أبداها بعض الحاضرين، وهي: ثانياً: حريَّة البحث العلمي: يُعد البحث العلمي الجاد في العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية وغيرها قاطرة التقدم البشري، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، ولا يمكن لهذا البحث أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية دون تكريس طاقة الأمة له، وحشد إمكاناتها من أجله. ولقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة في الحث على النظر والتفكر في الظواهر الكونية والإنسانية لاستخلاص سننها وقوانينها، ومهدت الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، قادها علماء الإسلام حتى انتقلت شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية. وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون، فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا التفكير المنتج، وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حريَّة أكاديمية تامة في إجراء التجارب وافتراض الاحتمالات واختبارها بالمعايير الدقيقة، وأن تمتلك الخيال الخلّاق والخبرة الكفيلة بالوصول إلى نتائج جديدة تضيف للمعرفة الإنسانية، لا يحدهم في ذلك سوى أخلاقيات العلم وضرورات إنتاجه. وقد كان كبار العلماء المسلمين مثل الرازي وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم أقطاب المعرفة في الشرق والغرب قروناً عدة، وآن للأمة العربية والإسلامية أن تدخل سباق القوّة وعصر المعرفة؛ حيث أصبح العلم مصدر السلاح والرخاء والتقدم، وأصبحت حريّة البحث مناط نهضة التعليم وسيادة الفكر العلمي وازدهار مراكز الإنتاج، إذ تخصص لها الموازنات الضخمة، وتتشكل لها فرق العمل وتوضع لها المشروعات الكبرى، مما يتطلب ضمان أعلى سقف لحرية البحث العلمي والإنساني. ثالثاً: حرية الرأي والتعبير: حريّة الرأي هي أم الحريات كلها، ولا يمكن أن تتجلى سوى في التعبير عنه بمختلف الوسائل من كتابة وخطابة وإنتاج وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريّات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم في تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حريّة الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحريّة الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي. ومن ثم فهي جوهر الحريّات العامة، ولا بد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير. وقد استقرت المحكمة الدستورية العليا في مصر على توسيع مفهوم حرية التعبير كي يشمل النقد البناء ولو كان حاد العبارة فنصّت على أنه: «لا يجوز أن تكون حريّة التعبير في القضايا العامة مقيدة بعدم التجاوز، بل يتعيّن التسامح فيها «لكن من الضروري أن ننبه إلى وجوب احترام المعتقدات والشعائر الدينية، وعدم المساس بها، لما في ذلك من خطورة على النسيج الاجتماعي والأمن القومي. وللحديث بقية.