كان ذلك في زمن بعيد. زمن اعتقدت أنه مضى وإذ هو ينهض في لحظة أسى. كأنما اليوم هو الأمس، كأن الزمن واقف لا يتبدل في طرقات الحياة ولا الرؤى.
اندس أليفاً هادئاً في كيانها كله. ذلك الصوت الرائق مثل بياض الفل الذي تعربش على مدخل دارها. ساهراً على أحزانها وصمتها وأفراحها القليلة. كان البلبل يفاجئها كل صباح على شجرة السدر السخية خلف شباك غرفتها. كانت تعرف أن هذا البلبل قد اصطفى هذه السدرة لكنها قررت أنه يصطفيها هي. كل صباح يأتي ليداعب يقظتها المبكرة. وحتى السدرة قالت إنها اصطفتها هي. فقد نبتت بشكل عفوي. لم تضع بذرتها ولم ترعها لكن السدرة كانت تعرف أنها تحب شجرة السدر وأسمتها شجرة العصافير والطهارة. ولأنها تكره العصافير محبوسة في أقفاصها فإنها ترى أن من الضروري أن تكون في كل بيت سدرة من أجل العصافير. ولأنها لم تزرع هذه السدرة فقد هزتها فرحة غامرة عندما رأتها صغيرة تنمو بين الأعشاب الطفيلية ولم تقتلعها. نظفت التربة حولها، وكانت تراقب نموها السريع المذهل. وها هي تلوّح بأغصانها كمناديل المحبة خلف شباك غرفتها.
ابتسمت وهي مستلقية على فراشها تشبك ذراعيها تحت رأسها وتتأمل الضياء والسدرة والبلبل. كل شيء لها ومن أجلها. نهضت بفرح طفولي وهتفت: ما أجمل هذا الصباح!
لم يكن هذا الصباح استثناء فقد كانت تشعر غالباً بهذا الانتشاء والحنو الذي يغمرها فجأة تجاه الحياة والناس والعالم. كانت السدرة والبلبل والضياء توقظ هذا الإحساس كلما خبا تحت وطأة الكآبة.
أسرعت بلهفة إلى بلبلها الجميل الأرقى والأروع. هكذا قالت لنفسها واقتربت من سريره، قبلته برقة وقالت له: انهض يا ولدي، سوف تتأخر عن المدرسة، وهي تعرف أنه لا يتأخر، لا يتلكأ ولا يبحث عن أعذار ومبررات. ينهض بقراره الصارم.
دائماً يحاصرها إحساس حائر أنها بقدر ما تفهمه تجهله. اتجه إلى الحمام وهي تعد له فطوره. يأكل بشهية طيبة وهي ترقبه كما ترقب أزهار حديقتها التي حولت صخرها وصحراءها بساعدها الأنثوي الصبور إلى نسيج ينبض بالحياة. أن تمنح الحياة خضرة الوجود، أنك مبدع وخالق. انتشت بهذا الإحساس، وراحت ترقبه بشغف وتدفق وهو يأكل ويقرأ. قالت في محاولة لكسر إحساسه بثقل نظراتها:
ألا يمكنك أن تنهي طعامك ثم تقرأ؟
رد بإصرار: أحب القراءة أثناء الطعام!
أدركت أن لا مجال للحديث بعد. داعبت شعره، قبلته، وأوصلته إلى المدرسة!