رأيته يمشي في الكتاب ويكادُ يغرقُ في الورق. الرجل الذي أدرك مذ رأى الشمس، أن الحقيقة تنام في الكلمة، وأن الحرية تبدأ أولاً في القلب والعقل، ثم تصير حصاناً يجمحُ في وجه الريح، ويشق عبابها حتى المنتهى. ولذلك، فإن الذي يقرأ كل يوم، إنما يتيح للخيال أن يشدّه إلى مكامن الدهشة البعيدة. وليست القراءة أن تحمل الكتاب وتجول به في مقاهي الترف، وإنما أن تدرب عينيك على كشط الغبار، لكي تكتشف الأسرار التي تنام في المهمل والهامشي. وأن تقرأ، معناه أن تملك القدرة على تفكيك اللوحة التي أمامك، وأن تستبصر من بين ألوانها معنى الجمال المحض. وحين تدخل إلى السينما، لا تسمحُ بالرسائل المبطنة أن تمر إلى عقلك حتى لو كانت في مشاهد مؤثرة. وحين تجلس إلى الأخبار، تتحول إلى فاحصٍ في كل نبأ، وأن تصدّق نصف الحقيقة أحياناً، وتحلل نصفها الثاني. القراءة حرفة لو ملكتها ملكت أسرار الحياة كلها. تغرف من بحر التاريخ ما يروي سؤالك، وتنبش في سير العظماء ما يغذي عزيمة روحك، ويبث فيك الأمل. وبعد ذلك، حين تمشي في شوارع الوجود، ستدرك لماذا يتصارع الجهلاءُ على كعكة الموت ويقتتلون من أجل ماء السراب، وستعرف أن الحكيمُ هو الذي ينتمي إلى التسامحِ، ويقبل بالآخرين، لأنهم في الأصل مختلفون. وسوف تقرأ عن بشرٍ فاض الغيُّ في قلوبهم، وصاروا يمشون عميان، ويسقطون في منحدرات البغضاء، لأنهم لم يغسلوا عقولهم في صفاء الكلام، ولم يتطهروا بمطر النوايا الصافية، ولم يعرفوا معنى أن يجتمع النقيضان، وأن يتسامحا من أجل أن تظل تدور عليهما مياه الساقية. والتسامح هو أحد أشكال القوّة، مثلما الغضبُ هو أحد أشكال الضعف. والتسامح هو أن تقبل بوخزة الشوك، لأن ذلك من طبيعة الورد. وما من طريق للتسامح إلا بالقراءة، عندما تتعرف إلى اختلافك من خلال معرفة الآخرين، وتدرك أن الكون ليس ملكك وحدك، وأن الحقيقة واحدة لا تتجزأ، لكنْ كلٌ يراها من زوايا الضيق. لكنك إن تماديت في القراءة، وإن تركت لروحك أن تبحر في تفكيك الأشياء والكلمات وفحصها، ربما ترى المشهد كاملاً. تماماً مثل النسر الذي يحلق لارتفاعات مستحيلة، ويرى من علوٍ اللوحة كاملة، حيث الضوء والظل يتكاملان ويتجاوران ويتعاقبان في المرايا العاكسة.