لأن الحرية أصبحت القيمة المهيمنة على الأنساق الفكرية والثقافية في العصر الحديث، يقاس بها تطور المجتمعات ونصيبها من الرقي الحضاري إلى جانب المقاييس المادية الأخرى، وتقترن بالعدل والمساواة في السياق المجتمعي حتى لا تتغول حريات الأفراد على الآخرين، فإن الخطر الذي كان يستشعره المثقفون المصريون من ارتفاع شعبية تنظيمات الإسلام السياسي كان يتهدد الحريات في الدرجة الأولى، لأنها كانت تنضم إلى بقية التيارات عند المطالبة بالحرية السياسية والاقتصادية، لكنها سرعان ما تأخذ موقفاً عدائياً متشدداً عند التعرض للحريات الاجتماعية والثقافية والعلمية. والشواهد تشير إلى أن تنظيمات الإسلام السياسي تنخرط في الدعوة للحرية للسياسة كي تشبع شهوتها الشرسة للاستيلاء على السلطة، لكنها في حالة فوزها بهذه الغنيمة التي بدت ميسورة بعد أحداث الربيع العربي الدامية، سوف تنقض على المنظومة بأكملها كي تعطل ديناميتها الحضارية اعتماداً على المحددات المعلنة لجماعات الإسلام السياسي دون مواربة، وفي مقدمتها: - احتكار الفهم الصحيح للدين، وتنصيب أنفسهم أوصياء على العقل العربي الإسلامي وتسفيه أية رؤية معارضة لفهمهم، واعتبار المخالفين لهم مخطئين أولاً ثم مذنبين وكفاراً يجب القضاء عليهم واستحلال دمهم ومالهم كما تفعل الآن كل فصائلهم. - اعتبار الفئات الأخرى ضالة قاصرة عاجزة عن إدارة حياتها وتشريعاتها، ومنح قادة الجماعات وحدهم حق الأمر والنهي وتطبيق الشريعة على هواهم، بتجاهل التطور الحضاري لمسيرة الشعوب وإنكار المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمرأة والطفل بدعوى خروجها عن الحدود التي يرسمها لهم القادة. - تأسيس نظم جماعاتهم على مبدأ السمع والطاعة العمياء دون حق أي تابع في مخالفة الأوامر التي تصدر إليه، حتى لو كانت انتحارية أو ضد المصلحة العامة، الأمر الذي يجعل كتلة الجماهير آلات صماء تستخدم في الحروب الأيديولوجية. يترتب على ذلك إلغاء الديموقراطية ذاتها، لأن الحق لا يمكن أن يكون مع الأغلبية عندما تعارض أوامر قياداتها التي تزعم لنفسها حق النطق باسم الله والحكم به، والانتكاس بحركة التطور الحضاري إلى منطق العصور الوسطى الذي كان يمضي بحكم العصبيات والقوى العسكرية والمهارة في خداع الشعوب. غير أن النتيجة الأفدح لحكم تنظيمات الإسلام السياسي هي التعطيل الكامل لكل آليات الإنتاج الفكري والمعرفي والثقافي والإبداع الأدبي والفني على السواء، لأن شرط هذا الإنتاج هو حرية العقل، وقد أصبح معطلاً بالسمع والطاعة العمياء، وحرية الإبداع العلمي دون أية وصاية مسبقة باسم الدين أو الأخلاق، لأن دينامية المجتمعات ذاتها هي التي تحدد الضوابط والشروط من داخلها وليس من سلطة عليا فوقها، أما موات الآداب والفنون فهو النتيجة الحتمية لهذه النظم الفاشية. لكل هذه الأسباب كان من الضروري لكوكبة العلماء والمثقفين برعاية شيخ الأزهر، أن يضعوا وثيقة الحريات باعتبارها الإطار الذي يحفظ الحياة المصرية من أخطار الإسلام السياسي.