أذكر جيداً جنون الإعجاب بالبنيوية في العالم العربي، خصوصاً أن هذا الجنون المقترن بالفتنة بها، جاء بعد أن أعلنت ثورة الطلاب الفرنسيين سنة 1968 عن نهايتها الرسمية، وحملوا لافتات مكتوباً فيها «تسقط البنيوية». وكان ذلك ضمن ثورتهم على كل الأنساق المغلقة التي تسجن الإرادة الحرة للفرد المتمرد على كل شيء، ابتداء من السلطة السياسية، وليس انتهاء بسلطة الناقد الأدبي البنيوي. ومن الطبيعي أننا لم نعرف شيئاً عن ذلك في الوطن العربي، لأننا كنا لا نزال مستغرقين في معاناة كابوس هزيمة 1967 التي لم نتخلص من أكثر كوابيسها إلا بعد سنوات معدودة، ولم نعرف الفرح النسبي الذي يجعلنا نستعيد علاقتنا بالعالم إلا بعد حرب 1973 التي أرجعت الثقة في قدرتنا على التخطيط العلمي، وتحقيق الانتصار على عدو أشيع عنه أنه لا يقهر. ورغم سوء الإدارة السياسية لنتائج الحرب، فإن أثرها الثقافي في استعادة ثقة الوعي الجمعي بنفسه وبعلاقته بالغرب إنما هو أثر بالغ القوة. كان من نتائجه أننا اكتشفنا البنيوية في السبعينيات، وشغفنا بها، وأخذنا ننظر إليها بوصفها رسول العناية اللغوية إلى النقد الأدبي، وظللنا على فتنتنا بالبنيوية إلى أواخر الثمانينيات تقريباً. ولكن مع صعود التسعينيات بدأنا نسمع عن حلول التفكيك محل البنيوية، وأخذ التفكيك يستهوي جيلاً جديداً من الشباب الذي كان قد قرأ تلاميذه لاكان وتعلم الثورة على اسم الأب، ويعاني من ما يشبه عقدة أوديب التي تدفعه إلى القتل الرمزي لكل ما يمثل الأب، حتى يستقل الابن ويصبح سيداً في عالمه الجديد. وكان من الطبيعي أن من تلامذتي من رأوا فيّ حضوراً رمزياً للأب/ السلطة التي لابد من التمرد عليها، تأكيداً للاستقلال الذاتي. وكان من هؤلاء تلميذي الدكتور حسام نايل الذي تهوس بالتفكيك، وفلسفة جاك ديريدا لما في هذه الفلسفة من نزعة نقضية، أهم عناصرها تدمير مركز اللوجوس ونقضه، واللوجوس تعني العلة الأولى، وكل مركز يتحكم في غيره بسلطة القوة المادية، أو بسلطة المعرفة، أو حتى بسلطة الأبوة. وكان من الطبيعي أن يفتن حسام نايل بمذهب التفكيك الذي يفقد عقلانية البنيوية وعقلانية أستاذه في آن، فترجم ما لا يقل عن ستة كتب عن ديريدا والتفكيك. وكنت أفرح به وأشجعه إلى درجة أنني أشرفت على أطروحته للدكتوراه التي تهدف إلى أمرين: الأول تحليل روايات نجيب محفوظ في قراءة تعتمد التفكيك منهجاً. والثاني نقد المنهج العقلاني لأستاذه الذي هو أنا. وكنت فرحاً بما يفعل وأشجعه، سيراً على درب أساتذتي الذين شجعوني على الخلاف معهم. وانتهى حسام من الدكتوراه، وأصبح الدكتور حسام نايل أكثر من ترجم عن التفكيك الذي فتن به. وفرحت أنا بما وصل إليه تلميذي الذي سعى إلى نقض منهجي العقلاني بمنهجي التفكيكي. وظني أنه لا شيء يفرح الأستاذ أكثر من أن ينقل إلى تلميذه مبدأ الاختلاف.. وللحكاية بقية.