لا أتذكر كم عدد الرحلات التي قمت بها إلى إيطاليا طوال هذه السنوات، في البداية كانت رحلة الاكتشاف، بسبب ذاك الحب الكامن في الصدر، والقراءات التي كانت تسكن الرأس عنها، والثانية كانت لاكتشاف المدن الجميلة فيها والمتنوعة، والثالثة لروما فقط وفينيسيا، والرابعة لجزرها، وتوالت السفرات حتى نسيت العد؛ مرة عشقاً لحدودها الخلابة مع سويسرا، مرة لمدن فاتنة مثل «فلورنسا وتوسكاني»، مرة لمهرجانات سينمائية تحتضنها مدن بعينها، مرة لمعارض كتب، أخرى للتبضع في مدنها مثل «ميلانو»، ومرات كثيرة لأني كنت بقربها، ولا بد من أن تكتحل عيني بمرأى أي شيء من إيطاليا، وحيناً تكون في رحلة بحرية، وتغريك شواطئها أن تقترب، ولو مدة تناول وجبة إيطالية أصيلة، ثم تذهب في حال سبيلك.
لمَ الحديث عن إيطاليا اليوم؟ لأنه لزاماً على كل محبيها الذين أمتعتهم يوماً أن يقفوا معها، ويتذكروها بالخير في محنتها مع الوباء، فطالما كانت إيطاليا مهداً للحضارات، لأن أرضها موغلة في القدم، وراسخة في مسيرة الحضارة الإنسانية، فقد أعطت روما عبر التاريخ أهم المنجزات الحضارية، متمثلة في قادتها العظام وفلاسفتها وفنانيها ونحاتيها وموسيقييها وأدبائها، ورساميها، وامتدت للحاضر حيث ظهرت الابتكارات الإيطالية الراقية، والمتميزة في الموضة العصرية، وفي صناعة السيارات الفارهة، وكرة القدم، والألعاب الرياضية المختلفة، والسينما، والمأكولات، والمشروبات وقهوتها الزكية، فإيطاليا كانت حاضرة وبقوة في الأمس واليوم، وهي حاضرة في الغد، لأنها ترتكز على أسس ومبادئ وقيم إنسانية عالية، يمثلها الإنسان الإيطالي المغامر دوماً، والمحب للجديد والمختلف، والساعي لجلب السعادة لنفسه ولغيره، لذا أعطت إيطاليا للعالم مخترعين، مثل «ماركوني»، مخترع الراديو مثلاً، «انطونيو ميوتشي» مخترع التلفون، والذي أعيد له اعتباره، والاعتراف باختراعه مؤخراً، «امريكو فيسوبوتشي» الذي أعطى أمريكا اسمها، «فيليني» أب السينما الواقعية، مدينة جنوه وبحّارتها أعطوا العالم بنطلون «الجينز»، «دافينشي ومايكل أنجلو»، زينوا وزخرفوا العالم، «غيرابالدي» السياسي العظيم، «البرتو مورافيا» الكاتب العظيم، غير رجال الموضة والابتكارات، ولاعبي كرة القدم ومدربيها، والممثلين العظام في السينما العالمية.
كثيرٌ الكلام عن إيطاليا وعطائها الذي لا ينتهي، أتذكرها اليوم في محنتها، والقلب يعتصر عليها، لأنها جربت بألم الخنجر الذي انغرس في قلبها من كل الأصدقاء الذين حولها، وطرأ على خاطري بشدة حدث شهدته في مدينة «ميلانو» في إحدى زياراتي الكثيرة، حينما كانت المدينة تستضيف معرض «إكسبو» العالمي، يومها وقفت في الجناح الإيطالي أمام مجسم كبير لخارطة العالم، لكن تلك الخارطة كانت خالية من ذاك الشريط الذي يشبه الحذاء في البحر الأبيض المتوسط، كانت من دون إيطاليا، وقفت أفكر متأملاً ومتألماً أمام سؤال عظيم، ماذا لو العالم خسر إيطاليا.. كم ستكون خسارته فادحة! وغداً نكمل..