المساحة التي تتيحها الشاشات لنهر الدم المراق في غزة على مدار اليوم بقوة الحديد الصهيوني تعد في تحليل الصورة ترميزا لما يدور على الأرض من مواجهة غير عادلة: عزلة الفرد والمكان والطبيعة، وقسوة الآلة والبشر الذين يديرونها لتسقط فوق أهداف لا مرئية تم تصنيفها كأمكنة لعدو لا مرئي أيضا، فيتساوى كل شيء ويأخذ حصته فيعلو مع الدخان الملون تاريخ وحيوات ومصائر لا تعني الرماة القتلة، بل تتعقبها عين الكاميرا ليظهر الضحايا: أمواتاً فاجأتهم القنابل أو الصواريخ فتناثرت أشلاؤهم مع الأجزاء المتداعية من الأمكنة التي حسبوها تهبهم أمناً وسلاما، حصل هذا في لجوء السكان إلى غرف مدرسة للأولاد تديرها الأمم المتحدة فجاءهم الموت من بعيد ليحصد عشرات منهم ويجرح أضعافهم، تعاد صورة الدخان وشواظ الأجساد المحترقة في ملجأ العامرية ببغداد في الشهر نفسه من عام ،1991 لم يصح النائمون تحت الأرض هربا من القصف الجوي لأن نومهم اندمج في لقطة فريدة من تاريخ بشاعة الحروب بالموت الذي يصبح تصفه الملاحم نوما أبديا لا رجعة منه· تتحدث سوزان سونتاغ في كتابها ''ألم الآخرين'' عن مواضع مشابهة من الكوكب العجيب نالتها نذر الموت وحفرت الصور في ذاكرة البشر ما يمكن لمقتلة مطورة أن تتركه رمزيا، وإذا ما سلمنا بأننا نحيا في عالم مشبع بالصور حد التخمة والاجترار، فإن الحرب سوف تنعكس في تلك الصور التي يظل لها وحدها القدرة على التمثيل وتجسيد رمزية الوحش داخل الإنسان المسيّج بقوته والمستنفر لعدوانيته التي لم تمت داخله بانتمائه للعصر، ولكن ما تنقله الصورة في حربها الرمزية تخفي دلالة خطيرة، سيكون تراكم صور البشاعة والقتل وتطاير الأجساد وموت الأطفال بأحضان ذويهم منظرا عاديا شيئا فشيئا وتؤدي الصورة هنا وظيفة عكسية ترصدها سوزان سونتاغ في كتاباتها عن مفعول الصورة، فتحذر من فقدان أثر الصورة تدريجيا وغياب التعاطف المفترض كهدف لها رغم شيوعها كلغة أو ثقافة بديلة، وهذا ما فكرتُ به وأنا أستمع لجنرال إسرائيلي يلوم الإعلام لأنه ينقل صور الضحايا ومشاهد الدمار فأعاد لذاكرتي سؤال ضابط فاشي شاهد عمل بيكاسو الجورنيكا فسأل الفنان: هل أنت الذي عمل هذا؟ فيجيبه بيكاسو: بل أنتم· تلم العين نثار الصور: طفل مختبئ تحت كرسي مرتجفا، وشاب يتلفظ الشهادة وهو يحتضر جريحا، وبيوت يجلس العجائز فوق أحجارها في مشهد يبدو وكأنه أثر زلزال مدمر، وصبية يقرضون أظافرهم مرتعدين خوفا وهم يتطلعون في سماء مدينتهم التي تمطر موتا، ذلك بعض ما تجود به حرب الصور وصور الحرب الشاهدة على همجية المتحضرين القتلة التي تضاهي بوقعها صور الرؤوس المتطايرة على الشاشة بأيدي سيّافي الظلام الجهلة