لو أطللت من نافذة غرفتك، وسمعت عصفوراً يغرد، لا تظن أنه يناديك. ضع بينك والعصافير في الخارج مسافة، حتى تستطيع سماع صوتك. كن في المنطقة القريبة منك، وسوف تسمع صوتك صافياً، تسمعه أكثر شحواً.
ما في الخارج ليس كله لك، بل ما في داخلك هو الشيء الذي تملكه، وهو الشيء الذي لك.
عندما تظن أن العالم جفف الصحف، وألقى الأقلام وجلس يصغي إلى همسك ونبسك، فأنت تقع في شرك الخديعة، أنت تغوص في الضجيج الداخلي، وتهيم في المعمعة، أنت لا تتشكل بالصيغة التي رسمتها لك طبيعتك، أنت رسم كاريكاتوري لفكرة ضائعة ومعتمة، ومندمجة في الريح العصوف.
لو اعتقدت أن العالم رمى أوراقه وحكاياته وقصصه وجلس على الأريكة كي يحلب بقرة الحظ، ويعطيك مما رق وترقرق وتدفق لكي تصبح أنت الأعلى، وأنت الأرقى، وأنت الأزهى، وأنت الأبهى، وأنت الأدهى، وأنت الأمهر، وأنت الأكثر، وأنت الأكبر، وأنت الأجدر، وأنت الأقدر، وأنت الأحلى، وأنت الأجلى، وأنت الأروع، وأنت الأبرع، وأنت الأوسع، وأنت الأبدع، وأنت الجميل والجليل والأصيل، والنبيل، والأسيل، والظليل، والسبيل، وأنت البذرة، وأنت القدرة، وأنت الندرة، وأنت النبرة، وأنت النشيد، وأنت القصيد، وأنت الفريد، وأنت الوحيد، وأنت التليد، وأنت المجيد، وأنت السديد، وأنت المديد، وأنت المد، وأنت المدى، والامتداد، وأنت المداد، وانت السداد، وانت الجواد.
لو تخيلت نفسك كل ذلك، وأسرجت جواد الوهم، في فراغات مراحل ما بعد الفراغ، سوف تحدك نجود، وسدود، وحدود، وندود، وقدود، وسوف تقف عند ربوة لن تجد فيها نهاراً يلقي عليك ضوءاً، ستجد ليلاً يسامرك، ويهديك السلام، لن تجد قمراً يغني للعشاق، ويمنحهم أبيات قصيدة عصماء لا فيها خلل، ولا يعتريها زلل، لن تجد أفقاً يفتح لك نافذة تطل من خلالها على أجنحة الطير وهي تكنس فضاءك من الغبار، لن تجد ما يمنحك رائحة الزهر في فناء منزلك، لن تجد ما يهبك لغة ترتل فيها آيات وعيك، وتكتب تعويذتك التي تحرسك، من شيطان الغرور، وحالة البارانويا، لن تجد ما يلقي عليك شرشف الدفء ويحميك من صقيع الخدع البصرية، لن تجد ما يسمعك أغنية الصباح، لتنتعش أوراق قلبك، وينشد العشب القشيب أغنيات بدوي وبيل، مر على غافة الوجد، فأسقاها برضاب الوفاء، ثم سار مترجلاً باتجاه الكثيب، ليروي عشبة الحلم من عرق وكد.