أفرح جداً بأن أرى الكتب الجديدة في كل معرض للكتاب، وأخرج دائماً سعيداً من كل معرض، فرِحاً فرَحاً غامراً بما اقتنيت، كأنني طفل اشترى له أبواه كل ما يحلم به من الألعاب الجديدة. ورغم أنني لم أعد طفلاً بريئاً، فقد أصبحت كهلاً أحمل أعوامي السبعين على ظهري، ولم أعد أسير متقافزاً أو جارياً، فقد أصبحت أسير في تؤددة وبطء، يتناسبان مع سني ووزني الثقيل. ولكنني ما أزال أنطوي على ذلك الشاب الذي ذهب إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب في سنته الأولى سنة 1969، عندما أسسته وأشرفت عليه أستاذتي سهير القلماوي. وكان المعرض في أيامها حدثاً فريداً، يحدث للمرة الأولى. وكان يقع في الموقع الذي تحتله دار الأوبرا ومتحف الفن الحديث الآن. وكانت هناك محاضرات وندوات، ولكنها لم تكن تقام في أرض المعرض القديم الذي ضاق بما كان يعرضه الناشرون العرب والأجانب في ذلك الوقت، فاتفقت الدكتورة سهير القلماوي مع الغرفة التجارية في باب اللوق، على أن تستضيف الندوات والمحاضرات الخاصة بالمعرض. وأذكر أنني حضرت ندوة أدبية في هذه القاعة في عامي الجامعي الأخير. وقد سعدت عندما رأيت المرحوم محمد مندور بصوته الحماسي الذي لا ينسى، وكان يرتدي حلة شركستين بيضاء اللون، موضة الأكابر في ذلك الزمان. كان يتكلم عن مسرحية توفيق الحكيم «أوديب» ويهاجمها بعنف من منظور ديني أخلاقي. وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها هذا الناقد العظيم الذي توفي بعد ذلك بأشهر معدودة، فقد حمل إلينا الناعي خبر موته في شهر يونيو 1965. وكنا أيامها في امتحانات سنة التخرج في قسم اللغة العربية. ولذلك تذكرته عندما ذهبت إلى إحدى ندوات المعرض الأول للكتاب سنة 1969. لكن الذكرى التي لا تنسى هي أن «دار الشروق» التي أنشأتها سفارة الاتحاد السوفييتي في القاهرة لبيع وتوزيع الكتب الروسية في الآداب والفنون والسياسة والاقتصاد، كان لها جناح كبير في معرض الكتاب الأول، وكانت تعرض ترجمات عربية لأعمال تولستوي، وتورجنيف ودوستويفسكي وجوجول وتشيكوف وغيرهم من عمالقة الأدب الروسي. وكان الكتاب يباع بقروش معدودة. وأذكر أني اشتريت أكثر من عشرين كتاباً لهؤلاء الكتاب بنحو جنيهين فحسب، وسرت حاملاً الحقيبة الثقيلة التي ضمت هذه الكتب، وكان منها «الحرب والسلام» في مجلدين، و«الدون الهادئ» في مجلدين. وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها كاتباً اسمه شولوخوف، عرف طريقه إلى قلبي بعد أن قرأت له وقائع وصفحات «الدون الهادئ». أما الكتاب الذي لم يفارقني بعد ذلك، وكنت أرجع إليه للمتعة بقراءته، فهو رواية صغيرة الحجم بالقياس إلى روايات تولستوي وتورجنيف، اسمها «بطل من هذا الزمان» أو «بطل لهذا الزمان»، وكان اسم الكاتب ليرمنتوف الذي احتل اسمه مكاناً لا ينسى في ذاكرتي إلى جانب تشيكوف الذي أصبح خدن الروح.