تصبح استعادة جبرا إبراهيم جبرا ممكنة الآن بسبب مرور عقدين على غيابه هذا الشهر تحديداً، وبما يدور حول الكتابة العربية من تساؤلات تمس مستقبلها ومصير مشروعاتها التحديثية، نظراً لمكانة جبرا في مقترح الحداثة الشعرية بمرحلتيها: الأولى المكتفية بتنويع التفعيلات والقوافي في القصيدة، والثانية الموغلة في تحرير القصيدة من الوزنية والتقفية، مع أن جبرا ورغم علاقته مع رواد مجلة شعر ومؤسسيها، اكتفى بالتوسع في حداثته إلى الشعر الحر بالمفهوم الأنجلوسكسوني القريب من الشعر المنثور، ما أفقده التأثير في إطار مجلة شعر، فيما اتضح أثره ككاتب حر له وضعه الإشكالي في مجالات الرواية والنقد الأدبي والتشكيلي والترجمة، وإشكاليته تأتي من انتمائه الفلسطيني وبعده عن التجارب الشعارية والحماسية من جهة، وإقامته ببغداد منذ عام تقسيم فلسطين حتى رحيله، ومحافظته على وضع (خاص) داخل الثقافة العراقية والعربية، تمثل في موقفه من الأنظمة التي لم تكن مقتنعة بنشاطه الفكري وصلاته، بدءاً من عمله في تحرير الجانب الثقافي في مجلة (العاملون في النفط) التي تصدرها شركة النفط البريطانية، قبل تأميم النفط حتى مساهماته في مجلة (شع) الليبرالية. لكن نشاط جبرا في مجالاته كلها: تشكيلياً وناقداً أدبياً وفنياً ومترجماً وشاعراً وروائياً وقاصاً وكاتباً وصحفياً ومدرساً لفترة قصيرة تميز باستقلالية فريدة، فكأنه موجود وغير موجود في الساحة الثقافية المحتدمة بالتحولات، رغم أثره الفاعل فيها. تؤكد ذلك واقعتان: تشكيلية تتصل بتأسيسه لجماعة بغداد للفن الحديث مع جواد سليم وشاكر حسن وآخرين، وشعرية تتلخص في صلته ببدر شاكر السياب الحميمة ومساعدته في ترحيله للعلاج والدراسة وحضور ندوات بيروت الشعرية التي قدمته للعالم من بعد. وإذا كان الشعر والرسم هما من أضعف صفحات سجل جبرا الثقافي، فإن رواياته وترجماته وكتاباته النقدية سيظل أثرها واضحاً في الكينونة الثقافية لأعوام الخمسينيات وما تلاها. فتأويلاته لعمل جواد سليم نصب الحرية فنية جمالية تمثلت بمقترحه لقراءة مفردات النصب كجملة واحدة أو لافتة، كما أن ترجماته لمآسي شكسبير وبعض السونيتات ورواية كالصخب والعنف لفوكنر، تشهد على فهمه للعمل المترجم واختياراته الدالة على عمق ثقافته، وكذلك ما ترجم من كتب مهمة في النقد والتشكيل أيضاً. لقد أوضح جبرا تربيته الثقافية والبيئية في أجزاء سيرته الكفاحية، سواء (البئر الأولى) عن الفترة الفلسطينية في حياته، أو (شارع الأميرات) عن جانب من سيرته البغدادية. وشارع الأميرات يستدعي تذكرنا لبيت جبرا الذي يقع في شارع بهذا الاسم في حي المنصور بقلب بغداد، ولكن تهدم البيت خلال الحرب الأخيرة يدعو للأسى لما يضمه المنزل من مقتنيات فنية ولوحات لجبرا نفسه ورفوف الكتب التي احتوتها مكتبته المفتوحة على غرف المنزل كلها، وهو ما جعلني أداعبه ذات زيارة بالقول: إن هذا متحف لا مسكن، أصحب الزوار لرؤيته. وهكذا عاش جبرا حقاً في بيت افتراضي أو متحف خيالي ليظل آمناً فيه.