قبل سنوات حلّت عصفورتان صغيرتان في المنزل الباريسي، جنان ووسن وردتان، زهرتان من عمر الوطن، من عمر الأحلام، استطاعتا في سنهما الصغيرة أن تسحباني إلى عالم حلو، عالم جميل، عالم وردي، يضج بالفرح واليقظة وابتسامات كالندى، استطاعتا في أسبوع أن تخرجاني من أوجاع الرجولة، والتزمّت الوظيفي، والتعالي الأكاديمي، لتجراني نحو فضاءات من الحلم والسعة والرحابة وألوان قوس قزح، استطاعتا أن تخلصاني من الركض السريع نحو كل شيء، من الترقب والتحفز نحو كل شيء، من التعاطي بجدية الموظف نحو كل الأمور، لقد جعلتا مني طفلاً صغيراً يراقب كل شيء، يدهش من كل شيء، كنت أشتهي أن ألون معهما الصور، أن أعيد ترتيب اللعب، أن أقضم أطراف أصابعي كعادة القلق الطفولي·
كيف تفعل الطفولة في الرجل الناضج؟! هي أمور لا ندركها، تأتي عفوية، سلسلة كما ينطقون، كما يتكلمون كما يفكرون كما ينامون·
أطفالنا، كيف يبزوننا أحياناً في اختراق مجال الذكاء، وإيراد الأدلة والبراهين، كيف يختصرون المسافات من غير مجاملات ولا رياء ولا مخادعات، عالمهم بسيط، وعالمنا مركب، عالمهم بريء، وعالمنا معقد·· هل هي السنون التي تفرض وقارها وعقدها علينا؟ أم نحن الذين نرتب الأشياء كي تتوافق معنا ومع طروحاتنا ومشتهياتنا وأعمارنا، لقد استطاعتا بعقليهما الطريين وفعلهما الطفولي أن تسحبا رجلاً قارب الثمانين كيلوجراماً إلى ألعابهما وحلوياتهما وأفكارهما التي تنطلق من قصص الأمهات والجدات، من عالم والت ديزني وليس من عالم تضج أخباره بالبيانات العسكرية والخطابات السياسية والبيانات الاقتصادية التي إن ارتفع سهم شركة سقط قلب آدمي·· كيف كانت تأتي أسئلتهما صافية، خالية من علامات الترقيم، الاستفهام، التعجب، تذهب بك بعيداً وعميقاً، لتعيد تشكيل عمرك من جديد، فتتمنى لو توقف بك العمر، لتستطعم ما يرطب فاهيهما ويلونهما، وتدخل في اللغة السهلة، اللينة، حين تسمع سؤالهما المباغت نحو كل الأشياء·· هاي شنو·· عمو ناثر ·
تتمتع بألعابهما الجديدة والكثيرة والتي كانت تشكل جداراً من الحرمان الطفولي، نحن لم نلعب كثيراً في طفولتنا، لقد كان الطفل منا حين يصل العاشرة من عمره، يبدأ بتقليد الرجال، وبعد أن يخضر شارباه تكون قد اكتملت فحولته، فإما أن يتزوج مبكراً، وإما أن يذهب في عمل الرجال الشاق، لذلك فإن كثيراً منا، حين كبر بدأ يلعب، وأحياناً بذيله، لكي يعوض عن لعب الطفولة الذي حرم منه·
كل منا في داخله طفل لم يكبر، سرعان ما يعود بنا سنوات طويلة إلى الوراء، لم يكن هذا الدلال والتدليل والنعيم الذي يعيش فيه أطفال اليوم، ورغم ذلك نحس أنهم لن يبلغوا شأونا، لأشد ما نحسد أطفال اليوم على ما هم فيه من بحبوحة العيش الرغيد، كلنا نتمنى أن ندخل الروضة ونتعلم الغناء والرسم والعزف وندخل مدارس خاصة لكي نجيد منذ صغرنا الإنجليزية والفرنسية، نسافر في الصيف إلى أوروبا وحدائق العالم، نقرأ قصصاً ملونة، ونتسلى بالألعاب الكثيرة، ونشاهد الرسوم المتحركة، ونتمتع بألعاب الكمبيوتر، بالسيارات الموجهة سلكياً ولا سلكياً، بالملابس الكثيرة والجديدة الملونة والأحذية الرياضية، بالفلبينيات المربيات، الخدامات، السواقات، ترى لو تيسرت كل هذه الأمور للأجيال السابقة، كيف سيرون العالم·· وهل تختلف النظرة، هل نكون بهذه الجدية وهذا الحزم تجاه الأمور؟ هل تطبعنا المعاناة والهموم التي نواجهها بطابعها الذي لا نستطيع الفكاك منه، كل جيل يقول لأبنائه ليتكم تربيتم مثلنا، ليتكم عشتم حياتنا ولكن رغم ذلك أرى أننا نرخي دوماً لأطفالنا اللجام لكي نعوضهم ما فقدناه نحن في حياتنا وطفولتنا، لكنها بالتأكيد تربية ناقصة متمنياً ألا ينطبق علينا المثل الألماني كثير من السكر للأطفال·· يتلف أسنان الآباء ·