بالفعل، هذا الكتاب الموسوعي من المختارات الشعريّة العربيّة على غرار الحماسات لأبي تمام وغيره، تصدقُ عليه مقولة أبي ذر الغفاري حين سأله ولده “يا أبت مالك ان تكلمت أبكيت الناس، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟” فقال: “يا بنيّ ليست النائحة المستأجرة كالثكلى”. فالأمير الأديب والفارس، أسامة بن منقذ، كانت حياته الملحميّة بكل ما لهذه الكلمة من دلالات مأساويّة، ذاتيّة وموضوعيّة عامة، تجعل من تلك الحياة المليئة بالأخطار والأهوال والحروب حياة فريدة على نمط الشعراء الفرسان الذين وحدّوا بين القول والسلوك واستضاءوا بقلق الأخطار وقيم البطولة، بحيث ان التاريخ لم يبخل عليهم بكل ما هو فاجعي وطاهر ونبيل، وما أحاق أيضا من دناءة البشر المحيطين وخستهم وانحطاطهم. أسامة ابن منقذ المولود في (شزر) نواحي حلب من أسرة عربيّة عريقة المحتد. كانت فترته فترة تشظي الدولة العربيّة الكبرى الى امارات ودويلات مبعثرة على أنقاض الامبراطوريّة المترامية المنعة والأطراف. كان الروم والصليبيون من جهة والفتن الداخلية والمؤامرات.. كان منقذ يخوض حروبه الكثيرة على كل الجهات من فلسطين والموصل إلى مصر وغيرها.. مما يجعل حياته الموشومة بالغيابات الكثيرة والانفصال عن الديار والأهل، جديرة بتأليف مثل هذا الكتاب الذي اختار أن يتأسى بشعر السابقين في مجال الرثاء والفجيعة وقصف الأقدار العاتية. على ما لديه من انجاز شعري وأدبي خاص في هذا السياق. فيبدو ان حجم مأساوية الروح الثكلى عنده تحتاج إلى أكثر من ذريعة تعبيريّة ومجال.. فهو بجانب الإشارة الآنفة الى حياته في الحروب والأهوال، ضرب زلزال مدمر في غيابه، منازله ودياره فمزّق أينما مُمزق شمل الأهل والأحبة والديار، وتركها قاعاً تصفر فيه رياح الكارثة والغياب والعويل.. وحسب ابن الجوزي فان الزلزال حوالي سنة 552هـ، هدم حلب وحماة، والمعّرة وحمص وإنطاكية ودمشق وطرابلس.. أما شزر موطن الولادة والطفولة فلم ينجو منها إلا امرأة واحدة.. أمام أهوال هذه الفاجعة، فليس أمام أسامة ابن منقذ، إلا بعض العزاء الذي نجده في مرآة الآخرين ممن أصيبوا بمسّ نكبته وحزنه.. على طريقة الخنساء “ولولا كثرة الباكين حولي/ على إخوانهم لقتلتُ نفسي”. كتاب غني، وُجدت نسخته الأصليّة في (المتحف الآسيوي بليننجراد) بخط أسامة نفسه وبمقدمة للمستعرب أنس خالدوف.. وحققه لاحقا مصطفى حجازي. رغم تلك الحياة التي عاشها أسامة ابن منقذ والتي كان الموت يتحيَّنها دائما، كان رفيقها الحميم، عاش حتى التسعينيات من عمره حيث ضجر الشيخوخة ووهنها وانهيار الأحوال، من غير أي سند على مواجهة الزمن والصيرورة. “الموت لا يقدمه ركوب الخطر ولا يؤخره شدة الحذر؟”.