رماد المتنبي
التورية التي يحملها اسم المتنبي للدلالة معاً على الشارع البغدادي والشاعر العربي، أفاد منها الزملاء محررو ''الاتحاد الثقافي'' بذكاء، فوضعوا عنواناً عميق الدلالة على غلاف العدد الرابع من الملحق هو ''فوق رماد المتنبي'' تاركين للصورة ـ قبل احتراق الشارع وبعده ـ أن تقول الكثير مما لا تستطيع الكلمة أن تقوله في مقام مزدوج الجريمة: بحقّ الكتاب والشاعر معاً، ولكن الزملاء مزجوا بعنوانهم بين الحقيقة والأسطورة: الحرق بالمتفجرات لشارع الكتب والمعرفة ببغداد، والاحتراق بالموت والصيرورة الرمادية للمتنبي، فأيقظوا في الذاكرة الجانب الانبعاثي المتمم لقصة احتراق طائر الفينيق، بولادة طائر من رماده، ترميزا لمقاومة الموت وانتصار الحياة·
المتنبي نفسه كان قد أشار لذلك حين تساءل مخبرا عن كثرة مرات موته وقيامته:
كم قد قُتلتُ وكم قد متُّ عندكمُ
ثم انتفضتُ فزالَ القبر والكفنُ
بل إن حياة المتنبي نفسها لم تكن إلا خلاصة لذلك الموت والانبعاث بدءا من البادية التي نجا منها متبوعا بتهمة النبوءة التي خلقها (حرق) صورته الشعرية المستندة إلى التشبه بغربة الأنبياء بين أقوامهم، وغربته في الحياة بين ناس عصره وشعرائه خاصة، وفراره إلى حمص وسجنه، ثم انبعاث حياته بصحبة سيف الدولة واحتراقه ثانية بوشايات ومؤامرات يرشح بها شعره ويشكو منها في القصائد التي سمّاها دارسوه (السيفيات) وما تلاها أيضاً، واحتراقه في مصر هذه المرة رمزيا بوعيد موته وفراره من كافور، وعبوره التيه صوب العراق في مغامرة وصفها بضرب القمار في مقصورته المدوية التي شبّه فيها الإبل بحبال الحياة التي انتشلته إلى مجهول جديد، سرعان ما تلبدت غيومه في وطنه الذي ضاق به، فاستراح في شِعب بوان قليلاً ليستمع إلى شكوى حصانه من هوس البشر بالحروب ومفارقة الجنان وكانت تلك نبوءة أخيرة باح بها المتنبي فبل أن يختفي في طريقه إلى العراق·
وإذا كانت تلك خلاصة دورة العذاب والشقاء في الحياة والشعر معا فإن الانبعاث الرمزي سيكون خلودا في الذاكرة وفي حيوية الشعر العربي واعتزاز القراء بقصائده التي لا تهرم مع الزمن، مقاومةً النسيان فجاءتْ تسمية شارع المتنبي جزءا من مكافأة الأحفاد لجهده الشعري·
لكن الأيدي التي تسللت عبر سكون الكتب على الرفوف والأرصفة أرادت أن تعيد جريمة احتراق المتنبي في تلك الظهيرة البغدادية الحزينة فيكون التمثيل والترميز حقيقةً وواقعا، ويكون الرماد إشارة إلى مصير الكتب والفكر في عقول القتلة الظلاميين الذين شكا المتنبي جهلهم طويلاً·
كثير من الحرائق شهدتها الكتب في جرائم مدبرة عبر التاريخ حتى صارت درجة احتراقها إشارة رمزية إلى صراع الفكر والهمجية· وهذا ما يقوله ببلاغة الرماد المنبعث من حرائق المتنبي: الشارع والشاعر·