بروج مشيدة
إذا زاد الشيء عن حده، انقلب إلى ضده! حكمة تطرح نفسها كلما تحولت حياتنا من البساطة في الأشياء إلى العقد والتعقيدات·
كانت البيوت، صغيرة، لكنها اتسعت للكبار والصغار، للوالد العود، والوالد والوالدة، وللجد والجدة، وكانت تتسع للأفراح والليالي الملاح والمناسبات الاجتماعية وللأتراح·
أما اليوم فالأفراد كالدول يتطلعون إلى البيوت المترامية الأطراف، بيوت وحدائق وربما ملاعب وتبحث عن القناعة فلا تجدها لا عند الأفراد ولا حتى عند الدول، كأن أخت العرب لم تنشد ذات يوم:
لبيت تخفق الأرياح فيه أحب إليّ من قصر منيـــف
وما ينطبق على البيوت، ينطبق على السفارات، فالسفارات أيام زمان كانت عبارة عن شقق في هذه البناية أو تلك، وحده السفير كان له مكتب مستقل! والآخرون في مكاتب مشتركة، وكانت السفارات تقوم بوظائفها، أما اليوم، فالسفارات لها حي خاص، وقد يكون هذا التطور مفهوماً ومنسجماً مع التوسعات ونمو المدن وتزايد حجم العلاقات وغيرها، ولكن الكتل الإسمنتية لم تعد معبرة عن دفء العلاقة·
ولقد زاد من روعي ما قرأته بشأن السفارة الأميركية في بغداد التي مازالت منذ 3 سنوات تتطاول في البنيان ولم تنجز بعد، وتتحدث الأرقام عن أكبر سفارة في العالم بكلفة نحو 800 مليون دولار، وبكلفة تشغيلية سنوية مقدارها 1,2 مليار دولار، وتقوم إحدى الشركات غير العراقية طبعاً ببنائها مجندة نحو ألفي عامل ومهندس وفني ليس بينهم عراقي واحد!! فالعراقيون غير مأموني الجانب! والحذر واجب!
وتوصف هذه السفارة بأنها مجتمع متكامل وخاص، ففيها محال للتبضع وأسواق ومخازن ومطاعم وبها مجمع سكني مؤلف من 700 منزل محاط بالجدران الإسمنتية العالية المقواة ضد المدافع وقصف الطائرات، وقد زود المجمع بمطار طوارئ خاص، ومرافق صحية وأخرى ترفيهية ومجمع رياضي ودور للسينما ومحطات توليد كهرباء·
لقد كانت السفارات الأميركية حول العالم في السبعينات والثمانينات بمثابة مصادر إشعاع ثقافي ولغوي وفني ورياضي، بل إن الفضل في شيوع دوري كرة السلة المحترفين فخء ف يعود بالدرجة الأولى إلى مكتبات الثقافة الأميركية التابعة لسفارات الولايات المتحدة كذلك للأفلام الأميركية المترجمة، وكانت السفارات الأميركية أكثر حضوراً في المجتمعات، وأكثر تواصلاً مع الناس، ولم يكن أحد يفكر في معاداتها، رغم الاعتراض الدائم على سياسة أميركا في قضايا الشرق الأوسط، ولم يكن عدد دبلوماسيي الولايات المتحدة يتجاوز 5 آلاف مختص حول العالم، وكانت العلاقات قوية ومزدهرة، واليوم يقدر العدد بنحو 15 ألف دبلوماسي معتمدين - غير المقنعين- وتشكو العلاقات من تعقيدات الكيل بمكيالين!!
كانت السفارات ملاذاً لكثير من الرؤساء المخلوعين أو المطلوبين من قبل الشعب أو من دول أخرى، كما كانت ملتقى للتبادل الحضاري ومعرفة الآخر، أما اليوم فيتخوف المارة من السفارات وحتى وهم بعيدون عنها، ناهيك عن الحواجز العديدة المحيطة بها· ما يقال عن السفارات الأميركية، يقال عن السفارات البريطانية والفرنسية والروسية·
اليوم·· الهواجس الأمنية طغت على تفكير الجميع، خاصة بعد التهديدات والتفجيرات، والدرس الإيراني للسفارة الأميركية في طهران ''وكر الشيطان'' والدرس اللبناني للسفارة الأميركية القديمة في بيروت، وظهور مصطلح دول محور الشر·
لقد تراجعت كرة السلة، وأفلام الكاوبوي، ودروس اللغة الأجنبية، والأسابيع الثقافية، لصالح هدير الدبابات والطائرات وأساطيل البحار، وغدت السفارات وكأنها بروج مشيدة·