منذ فترة وتفاصيل رواية «انقطاعات الموت» لا تبارح خيالي. والحقيقة أن فكرة معايشة «وباء» يكون قريباً منا بهذه الدرجة مثيرة وغريبة جداً، تستدعي أموراً مختلفة في ذهن كل فرد منا. عن نفسي فاضت ذاكرتي بكل ما قرأته مسبقاً من أعمال أدبية كان للوباء نصيب فيها. وهو ثيمة اشتغل عليها «خوسيه ساراماجو» ببراعة فائقة في أكثر من عمل. في رواية «انقطاعات الموت» لهذا المبدع ينقطع الموت عن مدينة بأكملها، في البداية وللوهلة الأولى يبدو الأمر جيداً.. بل ورائعاً، غير أن الحقيقة غير ذلك تماماً. يطرح ساراماجو أمامنا فكرة فلسفية عظيمة حول الجدوى الحقيقية من أمور اعتاد الإنسان على التعامل معها مُجبراً، فكرة في غاية الغرابة؛ ويذهب في ذلك، إلى أقصى ما يمكن للإنسان أن يقبله كالموت، إذ يتحول ذلك الشيء المرفوض إلى رغبة جامحة لدى الناس بل وأمنية يمكن أن يُدفع لها النفيس.
تظهر أهمية الموت لتستمر الحياة، وهذا ما يظهر من تفاصيل الرواية المثيرة، فالحياة لا تطاق من دون الموت، ورغم التناقض الذي يصعب استيعابه للوهلة الأولى، إلا أن بعض التفكر في شكل الحياة لو بقي كل البشر على حالهم، بأن يصلوا الى أقصى درجات الحياة بكل آلامهم ومرضهم ولا يعبرون الى الضفة الأخرى على أسرة المشافي بلا حراك، لا هم أحياء ولا هم موتى. كل شيء مُعلق، عند نقطة كارثية لمن تقوم أعمالهم على «الموت»، كالقطاع الصحي ودافني الموتى وصانعي التوابيت.. وغيرهم.
صحيح أن الرواية تقدم الجانب الساخر لهذه الفاجعة -غياب الموت- غير أنها تطرح فرصة لتأمل الحياة بعلاقاتنا المختلفة على مستوياتها، وهذا ما وجدت فيه فرصة لثقافة جديدة مختلفة تماماً عما اعتدنا التفكير فيه بخصوص أمور كثيرة في حياتنا.
فرصة للتفكر بالحياة من دون وجود المرض، أو تجارب من دون شعور الخوف؛ أو مثلاً علاقات من دون ألم الفقد، ومن دون ألم. هل هناك معنى من دون الشرور على الأرض! لا أطالب بهذه الفواجع إطلاقاً، ولكنها فرصة للتعامل معها من منظور مختلف، منظور يقبلها ويتعاطى معها كحقيقة مؤلمة ولكنها مهمة لنكمل معنى السعادة، واقع مُفجع لتنضج مسيرة الحياة، أساساً مؤرقاً لنرسو على شاطئ السكينة.