قلل من رغباتك، تكن أكثر، تكون أكثر صفاء ونقاء وثراء ورخاء. ما يتعب الإنسان ويرهق كاهله، تطلعاته التي تفوق قدراته ورغباته وتتجاوز طاقاته وأحلامه التي تسكن الفراغ. اليوم في الدول المتقدمة والثرية، تتضاعف حالات الانتحار والانحراف والضياع، لأن طائرة الطموحات أسرع من عربة الإمكانيات، الأمر الذي يصيب هؤلاء الناس بالإحباط والثبور والانهيار والسقوط في محيط العجز، وفقدان القدرة على مواكبة قوافل الحاجات المتكاثفة والمبهرة والصادمة. هذا لا يعني أن يجلس الإنسان بلا حول ولا قوة، وينتظر السماء كي تمطر ذهباً، وإنما التواؤم بين ما أستطيع، وما هو متاح هو القوس الذي يضع النفس في مأمن من خطر الانزلاق في الحضيض، والإحساس بالأذى جراء النكوص إلى مراحل ما بعد الواقع. فلو كنت موظفاً تتقاضى راتباً معيناً لا يفي إلا بأبسط الحاجات، وفكَّرت بشراء سيارة بما يتجاوز قدراتك المالية، مدفوعاً برغبة الغيرة من فلان الذي يملك هذه السيارة، فسوف تضطر للاستدانة من البنك، ومن هنا تبدأ المتاعب، ويبدأ التفكير في الخلاص من التبعية للبنك، ولكن التفكير وحده لا يحل مشكلة، بل يدخلك في متاهات تضيق بك حتى تصل بك إلى الباب المسدود، وبالتالي تصبح السيارة الفاخرة سبباً لمعاناتك وشقائك وتعاستك، لأنك فكرت أن تكون مثل غيرك، ولم تقتنع بأن تكون أنت، كما أنت، وكما هي قدراتك المالية. تلك القفزة في الفكر، هي التي أودت بك وهي التي أطاحت معنوياتك، وهي التي قادتك إلى مناطق متشعبة وشائكة ومعقدة، وأنت لازلت موظفاً صغيراً لا تقوى على مصارعة الأمواج الاستهلاكية، ولا تملك القدرة على السباحة في بحر هائج مائج تسوطه رياح الاستحواذ بكل ما تستطيع الأنفس. فكن أقل، تكن أكثر، وتكون فياضاً بحبك إلى نفسك وإلى الآخرين، تكون في غنى عن الخدع البصرية التي يتيحها لك بائع مخادع، يلقيك في الشرك، ثم يتخلى عنك ويدعك في صميم التفكير السوداوي، وفي قعر الهواجس المريضة، فأنت في مجازفاتك هذه مثل الطفل الرضيع، الذي هب ليتناول لعبة في مستوى أعلى من قامته، فاستقام ونهض وصعد على كرسي مخلوع الأضلاع، فوقع وتحطمت عظامه. أنت مثل سفينة خشبية قديمة، أراد صاحبها أن يعبر بها المحيط، كما يفعل أصحاب السفن الحديثة والعملاقة، فغرقت السفينة. وانتهى صاحبها إلى لا شيء. أنت مثل عباس بن فرناس، أنت مثل أي مراهق أحمق يتسلق الجدران من أجل الاستيلاء على ثمار الغير، ولا تدري أن هناك حارساً قنَّاصاً قد يرديك قتيلاً لمجرد رؤيته لك وأنت تمد يدك على شجرة اللوز.