كنت في بداية السفر شغوفاً أن أسجل أسماء الفنادق، ورقم الغرف التي أسكن فيها، ثم لا تعود تهتم إلا بتلك السرقات الجميلة، كقطعة صابون أو شامبو أو كريم عليه اسم الفندق، والأقلام لصديق يعشق هواية أقلام الفنادق، والكبريت لآخر من الأصدقاء يهتم بتلك الهواية الحارقة، ويشترط أن تكون علبة الكبريت الفندقية نظيفة، المهم أن تلك الغرف الفندقية القديمة والتي سجلناها في أوراق السفر والرحلات هي التي ما برحنا نتذكرها، أما الغرف الجديدة فالذاكرة العمرية تقوم بإلغائها تلقائياً، لكن لو حاولنا أن نتوقف على شرفات تلك الغرف، ونجر الربابة، لا شك أننا سنتذكر أشياء غالية، وجميلة، وأشياء لها رائحة الغياب، والوحدة، والترقب، والدموع، لقد كانت غرف وشرفات غنى لها الصدر: - غرفة تطل على موج المحيط في جزيرة «كوساموي» التايلندية، وشجرتا جوز الهند عملاقتان تتسلقان الشرفة في الدور الرابع، وأجواء بقيت مفعمة بالفرح والكتابة، وخدر الأمسيات حين تتمناها أن لا تنتهي، ظلت موجودة، وإن تلاشى الموج الذي كان ينحت صخر المحيط. - غرفة في فندق بائس في بومبي، تكاد لافتته أن لا تبين للناظر إلا عن قرب، يوقظك الناس الساكنين في اللا مكان قبل الفجر، وإذا بها ساحة، عجوز بإبريق ماء، طفل يتعصر عند الجدار، مقهى ينزل أكواب الحليب للزبائن على طابوق مركوز هنا وهناك، جواميس تتشمم التراب بتثاقل، مشاحنات بين سائقي الأجرة، وشاحنة فاغرة فاها، وباعة خضار، وأشخاص يستحمون في العراء. - غرفة مطلة على غابة صنوبر، وقبالتها البحر في بيروت، وشرفتها كانت دائماً مزينة بـ «الترويئة» الصباحية التي لها عطر أنثى الندى، وكسلها اللذيذ.. آه ما أطيب النوم صباحاً هناك، على كنبة الخيزران حين تأتي من تلك الغابة الصنوبرية رائحة قشعريرة الصباح وحدها. - غرفة في «ريتز» مدريد، من تلك الغرف ذات الأسقف العالية التي تشعرك أنك من بقايا الـ «بارونات»، وأنك ستشيخ متأخراً، وستظل محافظاً على ثيابك الصيفية البيضاء، وألوانها الفاتحة، وذلك الحذاء الـ «مونكاسان» الذي يرتدى عادة من دون جوارب، تفتح عيونك فلا ترى إلا تلك الحديقة، والريح الخفيفة تلعب مع عصافيرها، تماثيل مغطاة بالندى، ومتاحف تنهض باكراً لاستقبال العشاق، عشاق الحياة وإسبانيا. - غرفة باريسية مطلة على نهر الـ «سين»، زجاجية المشهد، في الدور السادس عشر، لكنك تستطيع أن تسمع تنهدات تلك الراكضة صباحاً، بظفيرتها الطائرة، تتدرب وتتأمل نحو النهر، تستطيع أن تسمع خطى خمّار الحي، وهو يجرها من تعتعة السُكْر والتعب، تستطيع أن تقول لك تلك الشرفة: إن باريس اليوم فرحة بشمسها الخجلى أو أنها ستختبئ عن مطر مباغت يود مشاغبتها في قـادم خريفها الحلو.. ونكمل