منذ أن ركبت التركيبة السكانية رؤوسنا، ونحن نمارس جلد الذات ونندب ونحطب في غابة الأسئلة التي تكاثرت وتضخمت حتى حفظها الصغير والكبير، بل وأصبحت مدرجة ضمن التمارين الصباحية لأبنائنا في رياض الأطفال، ونحن نعرف جيداً أن التناسل الرهيب للأعداد الفقيرة من البشر الذين ملأوا البلاد واحتشدوا في كل زقاق وناصية لم يكونوا في يوم من الأيام ظاهرة كونية فريدة، ولا هي حالة جوية مفاجئة، الأمر الذي يجعلنا نندهش ونصدم، فنصرخ ونولول، ونرفع الأيادي مهللين مكبرين: الله أكبر·· الله أكبر·· انصرنا على هذه الجحافل·· المسألة في غاية البساطة·· هل نحن نريد وطناً آرياً صافياً، لا تشوبه شائبة عرق، ولا مزيج دم، ولا ركاكة لغة، ونحن في بلد أنعم الله عليه بالخير الجزيل، وسكانه لا يتجاوز عددهم النصف مليون نسمة، والطموحات نحو التقدم والازدهار بحجم هذا النعيم العميم· أعتقد أن النهضة والازدهار لا تأتينا من فراغ وارتقاء الخدمات والتوسع في العمران، والارتفاع في البنيان، وتوفير حاجة الإنسان، لا يمكن أن يتم إلا من خلال بشر، هؤلاء هم أساس كل حركة وكل بركة، هؤلاء هم الذين يمنحون الحياة على الأرض، عشبها القشيب، ولونها الخصيب، ونبتها الخضيب، وبدون الناس لا يقوى أساس· فهل نحن نريد ولا نريد، هل نحن نسعى لتوفير كل هذه الحركة الدائبة والإنشاءات الصاخبة دون أن ندفع الثمن؟ هل نحن بهذا النقص السكاني نريد كائنات فضائية تنزل من السماء ومن بين السحب لتمطرنا بالخير دون أن نقابل هذا العطاء بثمن؟ الواقع يقول التطور سمة العصر، ومن لا يقبل به فهو كائن يعيش خارج العصر·· أما عن الحديث حول العمالة الآسيوية، وهذه التي يمضغها الكثيرون ليل نهار، فهذه لا أعتقد أنها معضلة، إذا كنا جادين في صياغة وطن بهوية عربية وثقافة أصيلة سليلة النجباء، فالخارطة العربية ملأى بالسكان، وهناك دول عربية مجاورة وبعيدة تستطيع ملء هذا الفراغ، ولكن هل نستطيع إسكات بعض الأصوات ذات المصلحة التي ستصرخ بملء الفم وتقول لا، لأن العمالة العربية لن تأتي بنفس الأجور·· هل نستطيع لجم مثل هذه الحناجر وكسر شوكتها من أجل مصلحة الوطن، وغاية أهله، وأهداف التطور المأمول·· بتواضع أقول الحل عربي، وصوت الوطن هو الأعلى والأغلى، والأهم والأشم· نحن بحاجة الى ترتيب ما خربشته بعض الأيدي، وتهذيب ما عبثت به بعض النفوس المريضة، وتوضيب حقيبة الوطن، لتعلو بنا الطائرة، ونسافر بعيداً بعيداً عن المطبات والمخبات، ولنرسو ويرسو معنا الوطن عند مرفأ الأمان والاطمئان، فنحن وقد منّ الوطن علينا بهذا الخير، فمن حقنا أن نختار ما يفيد مصالحنا، وما يدافع عن حقوقنا دون صرخة من خلل، أو آهة من ملل· المهم في الأمر أن تتوفر الإرادة وتتاح العزيمة لصناعة وطن، لا يشكو من علة ولا يندب من زلة·· ولسنا وحدنا دون أوطان الدنيا يشاركنا في اللقمة غريب أو قريب، المهم أن نعي دورنا في مواجهة دور الآخر لنتكامل لا أن نجعله في خانة العدو·· فنحن بخياراتنا وبأيدينا لا بأيدي الغير نستطيع أن نصنع غدنا ومستقبل هذا الوطن·· ونحن لسنا في حرب، فالخيار خيارنا والقرار قرارنا، والآخرون ضيوف في ديارنا·