من المهم فهم صفة الشاعر الرائي في إبداعه، وفهم الصفة التي تلازم المبدع الذي يرهص بالأحداث الآتية، ويتنبأ بها، أو يراها من خلف السحب المعتمة المتكاثفة التي تحول دون غيره والنظر إلى ما وراءها. فهو “الشاعر” الذي يرجع الجذر الدلالي لتسميته إلى المعرفة والفطنة بالأشياء والتنبه إلى العلامات التي لا يفطن إليها غيره. ولذلك قرن العرب القدماء قراناً واحداً، الشاعر والساحر والعراف والكاهن، وتصوروا “الشعر” قادراً على لمح الغيب. فالشعر نوع من السحر، ومعرفة نوعية حدسية، تدرك ما لا يدركه الآخرون. ولم يكن من قبيل المصادفة، والأمر كذلك، أن يرد العرب الجاهليون الشعر إلى قوى علوية، وأن ينزلوا الشعراء منزلة الأنبياء، أو يجعلوا لكل شاعر رئيّاً من الجن، والرئِيّ في اللغة هو الجني الذي يرى فيحبّ، أما رئِيّ القوم فهو الحكيم الذي يرجعون إليه، ويصدعون بما يتلقونه منه أو عنه. ولم تكن فكرة الإلهام التي يتنزل بها الشعر على الشاعر بعيدة عن غير العرب، فهي ترجع إلى الإغريق، وتردنا إلى حضور “الفاتيس” الذي تتكشف له كل الحجب، فيرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع، وتتقمص حضوره آلهة الشعر، وقت الكتابة أو النظم، كما وصفه أفلاطون في محاورته الشهيرة: “أيون”. ورغم المؤشرات والإحالات السابقة ليس من الضروري أن نغالي في قدرات الشاعر بخاصة أو الأديب بعامة، فمن المؤكد أن الرؤية المرهفة للواقع، والغوص عميقاً في علاقاته، يمكن أن تقدم لذوي العقول والقلوب المرهفة، في نوع من الحدس، علامات ترهص بالمستقبل، وتومئ إلى حركته سلباً أو إيجاباً. وإذا تتبعنا الأدب العربي الحديث والمعاصر سنجد فيه الكثير مما يدل على ذلك، من تلك النماذج التي تنطوي على قدرة تنبؤية مستقبلية رواية “ميرامار” فكل من قرأوا رواية نجيب محفوظ لفتتهم نهايتها التي تؤكد عجز كل الشخصيات التي أحاطت، طامعة، بالبطلة زهرة، وذلك في مشهد ختامي، أقرب إلى مشاهد النهاية التي لابد أن تعقبها بداية جديدة حتماً. وقد حدثت النهاية، بعد نشر الرواية بأشهر معدودة، مصحوبة بزلزال العام السابع والستين الذي كان نهاية زمن وبداية زمن مغاير بالقطع. وقس على ذلك قصيدة “غزاة مدينتنا” للشاعر محمد إبراهيم أبو سنة التي أذكر أنني قرأتها حوالي عام 1965، فقد كانت القصيدة تتحدث عن غزو قادم، سببه نحن الذين تركنا مدينتنا لتعاني ما عانته، وانتهكناها قبل أن ينتهكها الآخرون.