منذ سنوات، كتاب فائق الخطورة للمؤلف جراهام هانكوك تحت عنوان “سادة الفقر” أو صناع الكارثة، هز وجدان الناس وأثار غضبهم بشدة، فقد قدم وثائق حقيقية ونقداً شديداً لحقائق صناعة العون والإغاثة التي تصرف مليارات الدولارات سنوياً من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة، وبمعنى آخر من جيوب دافعي الضرائب في الغرب إلى ضحايا الكوارث في العالم الثالث! لقد موّلت هذه المليارات مشروعات عملاقة، وبتكاليف باهظة، لم تردم حفرة الحروب الأهلية القذرة، ولم تنه المجاعات، ولم تقض على الأوبئة والجفاف والجهل، بل دمّرت البيئة وحطمت الحياة وساعدت بل و”شرعنت” أنظمة دكتاتورية بشعة، كما وسهلت بروز بيروقراطيات ممتدة حشدت بطوابير من الموظفين الذين يلهثون وراء مصالحهم وذواتهم، ما خلق طبقة من الطفيليين من ذوي الامتيازات ومن المتسلقين في مئات الألوف من الوظائف لعديمي الأهمية من “الأولاد” الذين أسسوا لامبراطورية فساد هائلة في بلدان الفقر والمجاعات والصراعات في العالم الثالث!! ينتهج الغرب سلوكاً مزدوجاً في تعامله مع البلدان المحتاجة للمعونة والمصنفة ضمن بلدان الكوارث والفساد، فهو يتباهى بمساعدتها والتدخل السريع لإنقاذها من مخالب الديكتاتوريات إلى أمان الديمقراطية وواحات العسل واللبن، وذلك عبر برامج المساعدات والقروض الميسّرة ومؤتمرات المانحين التي تعقد لها منصات ضخمة حول العالم، من دون أن نرى أي نتائج على أرض الواقع، فبدلاً من معاقبة زعماء العالم الثالث الجشعين والفاسدين والمرفوضين من شعوبهم، غالباً ما تقوم المعونة والتدخل والمنح الضخمة بمباركة سلوك هؤلاء واحتضانهم ومباركة أحلام عظمتهم المكلفة جداً والتي غالباً ما تقتات من أقوات الناس! حدث ذلك في الفلبين أيام ماركوس، وفي أفريقيا الوسطى زمن بوكاسا، وفي السودان والصومال وأوغندا وغيرها كثيراً، ويحدث اليوم بالطريقة نفسها ما يذكر في النهاية بحكاية طريفة تقول: إن رجلاً سميناً التقى بآخر نحيف جداً فقال له “يجب أن تخجل من نفسك، فإذا رآك أحد الأجانب فسيعتقد بوجود مجاعة عندنا، فرد النحيف قائلاً: لا عليك، لأنه إذا رآك أنت بعدي سيعرف سبب المجاعة!! هكذا هي المسائل دائماً، هذه هي آلية الخطأ ونتائجه، هكذا هي استحقاقات الفساد والتجاوز والطغيان، وهنا فالفساد والطغيان لا تمارسه السلطة الحاكمة فقط، فحتى الإعلام يتحول إلى سلطة فاسدة وجمعيات الإغاثة ورجال المعونات وموظفي المؤسسات العاملة في هذا المجال، حين تتحول فكرة المعونة إلى وسيلة تربح واسترزاق على حساب الفكرة المثالية القائمة على مد يد العون للمحتاجين والمنكوبين! لا يوجد لدينا ولله الحمد كوارث ومجاعات تستدعي تقديم المعونات، فحكومتنا تستنفر كل قواها لإصلاح أي خلل طارئ أو تقصير يطال الداخل أو أي مواطن، و من الدول النشيطة التي تقدم معونات ومساعدات للخارج وبشكل يشهد به الجميع، لكن هذا الذي يعرضه الكتاب يحدث في مناطق منكوبة نرى ضحايا بنكبتهم يثيرون ولا شيء على شاشات التلفزة، وبأوضاعهم نفسها منذ عشرات السنين، ونتساءل لماذا تستمر مآسيهم على الرغم من كل هذه المساعدات والمعونات؟ هذا الكتاب يقول لنا لماذا تستمر الكوارث.. لأن هناك صناعاً يعملون على استمرارها متسيدين ساحة صناعة الفقر!!