من قال إن كلمة: أحبّك. أثقلُ من جبل؟ من هذا الذي روّج أن ابتسامة الورد تخفي وراءها شوكة الندم. ها هما زوجان منذ ثمانين سنة معاً يتأرجحان على غصن شجرة وارفة، ويرميان الثمر إلى أحفادهما. ها هما عاشقان يلتقيان على جسرٍ التمني ويقفزان في شرود غيمة عابرة. وأنا مثلهما، بدأت أنحتُ سيرة الشوق إلى اكتمال قمري عندما كنتُ طفلاً في مشيمة الزمن. كانت صرختي الأولى كلمة حب، ولكن ظنها الآخرون نغمة بكاء. وحين حبوتُ مرتطماً بجدرانٍ عالية، إنما كنتُ أنطحُ ما يسدُّ الأفق، وما يجعل الحياة روتيناً خانقاً. قال المدرسون في صبيحة التلقين والخوف: الحرية حمراء، وعليك أن تنتزعها بالدم. لكني أدركتُ أن العيش حراً، هو أن تسرح طافياً في بحر عينين عاشقتين. وأن تنطق حراً، هو أن تُقبّل وجهاً على وجنتهِ القمر. هكذا بدأت الحكاية في دفتر صغير على شكل قصيدة ليس لمطلعها منتهى. وبقلمٍ هو الآن عكّازي، ربّيتُ الكلمات في قفصٍ، وأطلقتها عصافير في رحابة شرودها.
من قال إنها: لن تأتي؟ لبستُ الزمن حذاءً وربّط خيوطه برجليّ وجلسنا على عتبة بانتظارها ضاحكين. وبيديّ هاتين قوّمتُ الطريق الذي كان ملتوياً وفرشتُ عليه سكك قطارات كانت ستغادر للهاوية. ثم جاء سحرةٌ ومنحوني قبعاتهم فخرجتْ منها أرانب كثيرة. ومرّ بدوٌ في قوافل قاسموني زاد حكمتهم، ورسم لي كبيرهم على الرمل دائرةً تخرجُ من دائرة، وأشار إلى القمر والشمس كعاشقين لا يلتقيان. وكنتُ كلما تمتمتُ، انفكّت القصيدة من يُتمها. وأذكر كان الوقتُ ظهراً حين تعرّت الريح من سكونها وراحت تغسلُ الطرقات بمطر كريستالي. وشاعَ بين الأشجار بأن امرأة وُلدتْ من رسائل الحنين، وكبُرتْ في حضن الضوء، ستعبر من هنا. بلا ظلالٍ لأن شموخها يأبى. وبلا أقنعة لأن الحقيقة تاجها. وبلا قفاز، لأن مياه الأنهار تنبعُ من كفّيها.
وُلد الحبُّ أوّل مرةٍ على شكل حبّة ضوء سقطتْ من سماء مستحيلة. ثم انفلقتْ نصفين افترقا حين غادرت يدها يدي. ورأى الناسُ كيف طفتْ على بحر القواميس كلمة غريبة اسمها: الوداع. ومن جهة الشرق ارتفع قوس أجنحةٍ لطيور من نورٍ وبثّ في أثير الحياة اسمها. وكان ذلك صوتي الذي أزلزلُ به الآن كل وحشةٍ، وأكشُّ به كثافة الرماد المتراكم على صور بدايات الأسماء والأشياء.