من يفرج عن هؤلاء (4)
وقف معلم الفصل أمام التلاميذ، لمح تلميذاً وسط الصف، اقترب منه، سأله بلهجة حادة جادة، هل أحضرت المستلزمات التي طلبت منك؟ رفع التلميذ بصره، نظر إلى المدرس نظرة مكسورة مأسورة بالعجز وقلة الحيلة، قال في لهجة مرتبكة: لا يا أستاذ لم أحضرها·· بهت المدرس، وفي داخله مشاعر متناقضة، فهل يؤنب التلميذ ويطرده من الفصل فهو في حكم القوانين المدرسية ووزارة التربية مقصر وغير ملتزم، وفي حكم الأخلاق والقيم والحالة الإنسانية فإن من واجبه أن يتعاطف معه ويعضده ولا يوبخه، فكر المدرس ومثلت أمامه معاناته التي لا تختلف كثيراً عن معاناة التلميذ فهذا المدرس يتقاضى راتباً يكاد يكون أشبه براتب موظف يعيش في زمن الخمسينات من هذا القرن، لبث المدرس متأملاً متفحصاً وجه التلميذ الصغير فانبرت أمامه صور أبنائه الذين يعقدون يومياً اجتماعاً مغلقاً يحاكمونه ويحاسبونه ويعرضون عليه المطالب التي تهتز لها الجبال، وترتجف لها الأحوال·· هز رأسه مط بوزه تأففاً قال في سره، أي معلم هذا يستطيع أن يحاسب تلميذاً على تقصير وهو يمارس يومياً رياضة البحث عن تاكسي ينقله إلى مدرسته، في حين ان طالباً من إياهم يدخل المدرسة بأفخم السيارات وأفخر الملابس ورائحة العطور والبخور تفوح من ثيابه، وفي كل صباح يدخل المدرسة في شكل ولون وهيئة·· وعندما أسأله عن تأخره في حل الواجب يقول بعنجهية: آسف لم أستطع ففي الليلة البارحة كنت في سهرة مع الأصدقاء ثم يلتفت جانباً بكبرياء المترف المعتز بذاته المحتقر لذات الآخر·· يلتفت باسماً ساخراً، ساخطاً من سؤال المدرس عن الواجب·· وتفاهة الأسئلة الأخرى·
تمتم المدرس محاولاً طرد هذه الأفكار المؤلمة، هز رأسه ثم دنا من التلميذ نابساً بلهجة مشروخة، وصوت مجروح، يا ابني يجب أن تلتزم كما يفعل اخوانك وإلا ستكون العواقب وخيمة والحلول سقيمة·· نظر التلميذ إلى المدرس، والدمعة المحبوسة تتدحرج في عينيه، قال في صوت خافت، مستكين: حاضر·· حاضر يا أستاذ، ولبث المدرس يجول ويجوس في الفصل والفكرة حائرة، المشاعر خائرة تحت سياط الأوامر الحائرة ثم وقف عند السبورة يردد في هزاء بيت الشعر القائل:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
ثم خرج من باب الفصل، بصق·· وعاد جاهماً حانقاً يجلده إحساس مروع وشعور فظيع·· شعر ساعتها أن سقف الفصل يهوي على رأسه فيشعر بدوار، هيض النفس وما روض القلب، فكر·· ماذا يقول للتلاميذ، عن أي قيم يتحدث إليهم، وعن أي مبادئ إنسانية يسرد، فالهرم المقلوب، قلّب الثوابت ومزق أوراق المعرفة، والفلسفة التي قرأها منذ زمان صارت عجرفة ومفاهيم خرقة·· لا يحتاج الأمر إلى تفسير أو تدبير، فالأشياء التي كانت جميلة، تولت وأدبرت وأفلت نجومها، والحقائق مهزومة مكلومة، مجزومة حتى وإن غاب حرف الجزم مكسورة حتى إن لم يحضر حرف الجر، مشلولة وإن رفعت مقعدة وإن نصبت، وما المنصوب إلا أمر، لا يصد ولا يرد، وما المرفوع، إلا أسعار تتسلق على جليد الراتب، الذي يهبط ولا يرتفع، يتجمد ولا يسيل·· هو كأحفورة باقية على مر الزمان، لكنها لا تنفع ولا تشفع·