شاهدته يزحف على أديم الباب صغيراً بحجم الأظفر، نهضت بسرعة فأغراني اللاشعور بسحقه، فأمسكت بالنعال وقصمت ظهره، فسقط على الأرض يرفس بأقدام دقيقة، أدق من الخيط الرفيع، كان يلعن ويطحن المصادفة التي أتت به إلى هذا المكان، بحضور كائن بشري لا يقبل العيش إلا منفرداً من دون كائنات أخرى، تشاطره ورطة الحياة، بعد فترة أحسست بتأنيب ضمير، تساءلت لماذا لم أدعه يمضي في سبيله ويبحث عن أسئلته الصغيرة بحجم طموحاته البسيطة، باحثاً عن لقمة أصغر من عيني الذبابة.. ماذا كان سيصيب العالم لو عاش هذا الصرصور الصغير قبل أن يذهب إلى مثواه الأخير؟
لا أدري، ولكن الرغبة البشرية في الإفناء أكبر من كل الأسئلة، وأعقد من كل الإجابات، مهما كانت بديهية، بعد فترة وجيزة تلاشت بعض أجزاء الصرصور، بل صارت في حضرة النمل الأصغر منه.. فأنا قتلت الصرصور، وأطعمت النمل، وأنجزت مشروعاً بهلوانياً، هو في الحقيقة شيء من الإرهاب والقتل المجاني الذي يمارسه الإنسان ضد الكائنات الأخرى، والذي تطور نسلاً فجائياً، ليصبح القتل بين الإنسان والإنسان مسألة لا تعد بالأرقام، بل بحجم الأوهام التي تستوطن أفئدة بني البشر عندما يظنون أن الأرض لا تتسع لأكثر من شخص واحد، وعندما يعتقدون أنهم الواحد الأحد، الفرد الصمد، ولا أحد سواهم يستطيع أن يصلح العالم، وأن ما يدخره من أفكار غير قابلة للتعديل، الأمر الذي يجعل الإنسان يمارس البطش بجرأة الوحوش والضواري، ويسيل الدماء وكأنه يدلق بحاراً من المياه الضحلة، لم ينمو الإرهاب في نفوس البشر لأسباب مادية وأيديولوجية فحسب، بل إن السبب الأخلاقي واللاشعوري الفج الذي يختزن كميات هائلة من الأنانية والفردية والتضخم والتورم يجعل الإنسان لا يطيق إلا نفسه، ولا يقبل العيش إلا لنفسه دون سواه.. أخلاق بشرية عاشت وعاثت وتفشت وانتشرت كالوباء منذ أمد بعيد، وعمتها الأيديولوجيات السوداوية المكفهرة التي تلاقت مع أخلاق قديمة قدم الإرث الجاهلي العنيد.. فالإرهابي لا يقتل ولا يكره لأنه ملتصق بأيديولوجيا سامية، بل هو يفعل ذلك بإيعاز من ذات عدوانية لبسها الأيديولوجيا لتصبح مشروعة ومقبولة على أقل تقدير منه ومن أقرانه، والإنسانية لن تتصالح مع نفسها إلا إذا تخلصت من عدوانية الذات، وتحررت من المبررات الوهمية للقتل، وتفادت كل أشكال العبودية لعقائد هي من صنع إنسان زورت المبادئ الحقيقية، وشوهت ولوّنت وغيّرت وبدّلت، وسوّلت لأنفسها بأن تفعل ذلك لأغراض نفسية بحتة.. والله المستعان.


marafea@emi.ae