كان لي صديق شاعر ظريف في سوريا، هو الشاعر حافظ أحمد شنبرتي. وكان غالباً ما يراسلني نثراً وشعراً، حين كنت أُشْرِفُ في القسم الثقافي لإحدى المجلات، على باب في الكتابة اسمه “أقلام للمستقبل”، حيث أنشر زاوية مختصرة لشعراء وكتّاب في أول حياتهم الأدبية، على موهبة إبداعية تحتمل النشر والتعليق الحاد المقتضب، معتبراً أن هؤلاء الهامشيين، هم في نظري الأساسيون في الكتابة، لا الطواويس والدونكيشوتيون. وكان الشاعر شنبرتي يرسل على التوالي بمقطعات صغيرة من الشعر مرحة، خاصة.. جميلة فأنشرها وأنوّه بها.. حتى فاجأني ذات يوم بأن أرسل لي ديواناً صغيراً من الشعر، نشره تحت عنوان هو “قِفوا نبكِ..”... فقرأته واستمتعت به، وأدركتُ أنّ القصد من العنوان، ومجمل القصائد، هو نقد الصيغة القديمة لـ”قِفا نبكِ” لامرئ القيس، ونقد الحال العربية السياسية الراهنة، التي لا يكفي فيها مناداة اثنين للوقوف والبكاء، بل تحتاج جماعة.. اليوم، مات حافظ أحمد شنبرتي. وصيغة “قِفا بنكِ” لا تزال مستمرة وسائدة، من حيث أنها جزء من خطاب المثنّى في الشعر العربي والذكر الحكيم معاً، لا في البكاء والاستبكاء، وحده، بل في الأنس والشراب أيضاً، وفي سورة من سور القرآن، هي سورة المثنّى بامتياز، حيث يسيطر المُثنّى في “سورة الرحمن” سيطرة مطلقة على الآيات، وتتكرر الآية “فبأي آلاء ربكما تكذبان” إحدى وثلاثين مرة، في ما مجمله ثمانٍ وسبعون آية، مشكّلة لازمة إيقاعية في توالي الثنائيات، ومشكّلة مع سواها، عالماً خالصاً من سحر البيان وسطوة الصوت والموسيقى (التجديد)، يتجلى لدى السماع (الترتيل) في أبهى صوره. إنها إذن أبهّة المثنى في العربية، وأقول في العربية، لاعتقادي أنها اللغة الوحيدة من بين لغات العالم التي تختص في الخطاب بالمثنى وله علامته وصيغته، بين المفرد والجمع، في حين أن المثنى فيما أعرفه أو ما أعرف عنه في سائر اللغات، يذوب إما في المفرد أو في الجمع.. فهو إما ذائب أو مستور ويكشفه سياق الكلام. حسناً.. هذه هنا ميزة جمالية خاصة بالعربية، فثمة ضمائر وأسماء إشارة وأسماء موصولة مختصة بالمثنى، فتقول: هذا وهاتان، واللذان واللتان.. وعلى هذا الأساس تتصرف الأفعال فتقول كانا وكنتما وحضرا وحضرتا.. الخ. ولم يقتصر الأمر على مطلع معلّقة امرئ القيس “قِفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ..”، بل تعداه بعد ذلك الى الشعراء الإسلاميين في الحب والشراب والشكوى والأنس. فقال ابن الرومي “يا خليليَّ تيمتني وحيدُ..” وقال المعري “علّلاني فإن بيض الأماني/ فنيت والظلام ليس بفانِ”. وقال المتنبي “يا ساقيي أخمر في كؤوسكما/ أم في كؤوسكما هَمّ وتسهيد..” وهلمجّرا. وعلى الرغم من تفسير الزوزني لخطاب المتنبي في معلّقة امرئ القيس، إلا أنني أميل الى البعد الجمالي في الخطاب.. مستنداً في ذلك الى “سورة الرحمن”.