إسماعيل مطر يبكي، يملأ المشهد المباشر بالدموع، وبكلمات منهكة أرهقها الذهول، وفجعها قُبح اللحظة.. لا يبكي لأن المباراة منحته الخسارة، ولا لأنه عجز عن جلب الفرح للجماهير، كان يبكي لأن هناك من فتح فمه بالشتائم ليس لمطر وحده، وإنما لأخيه الذي غادر الحياة.. صمّ اللاعب الإماراتي التاريخي أذنيه عن الشتائم الموجهة له، لكن حين مست واحدة منها شقيقه الميت شعر بوخزها في قلبه، فانهار باكياً.

لم يؤلم ذلك مطر فقط، بل امتد ألمه إلى كل الذين شاهدوه وهو يحاول إزاحة الحزن عن قلبه.. ربما تخيل لحظتها شقيقه يسأله: «لماذا يشتمونني يا إسماعيل، لماذا، ما ذنبي؟!».. فأوجعه السؤال، وأوجعه أكثر أنه لا يعرف الإجابة!
نعم الهزيمة تعكر المزاج، وتحثو الظلام في الروح، والأداء الباهت يحشو لسان الغضب بالكلمات الفاسدة، لكن أين يذهب «الإنسان» في هذه اللحظة، أين تدس «الأخلاق» رأسها؟!.. لماذا يصعب علينا ابتلاع الإساءات بدلًا من تلويث الآخرين بها؟!
لا أحد يستطيع سجن غضبه «قليلون يفعلون ذلك»، لكن بالتأكيد يمكننا سجن الشتائم، يمكننا قتلها ودفنها في قبور الصمت قبل أن تجري على ألسنة الكلام، نعم شاق جداً أن نقوم بذلك لكنه ليس مستحيلاً، ربما يمكن فهم - أقول «فهم» وليس «قبول» - الشتائم التي تُقذف من المدرجات في ذروة الاستياء، لكنني لا أفهم الشتائم التي «تُكتب» بعد أن يتنفس السخط هواءً نقياً، إذ يتاح لنا حينها أن نختار كلماتنا بحرص، وأن ننتقي منها ما يؤثر لكنه لا يؤذي.
بكى المطر إسماعيل في الملعب، لم يقدر على حبس حزنه ولا دموعه، كانا أكبر من إخفائهما وأقسى من تحمل تأجيلهما، ولهذا رأينا كيف ينكسر اللاعب القوي، كيف أن لكلمتين أو ثلاث كلمات قبيحات أن تعصر روح مقاتل شجاع.. رأينا إسماعيل وهو يختنق بشتيمة مجهولة جاهلة، لكن ترى كم من لاعب لم نره وهو يسيل حزناً وبكاءً لأن هناك من لعن أمه وأباه، أو وصفهما بكلام قذر صُنع في قلب أسود، أو وصفه هو ببذاءة نجسة تنقض طهارة الروح.
المغربي الفذ عبدالرزاق حمدالله غادر أرض الملعب على أصوات مشجعين وهم يسبون والدته، ويصمونها بأبشع ما أنتجته مصانع الوقاحة والفُحش والقرف! وحين أُغلق باب الملعب، لحقوه إلى مواقع التواصل الاجتماعي وأكملوا حفلة السب الماجن هناك، فأغلق حساباته كلها وغاص في صمت عميق.. لكنني تخيلته حينها يقبل رأس والدته، ثم يغيب في غابة من البكاء تحت جنح ليل دامس، ولا يراه إلا الله.
الفرنسي بليز ماتويدي، الذي كان ضحية هتافات عنصرية، بكى حتى جف صوته، لكنه قال كلاماً عظيماً، عن الذين حاولوا إذلاله بُجبن: «الأشخاص الضعفاء يحاولون تخويف غيرهم بالكراهية.. كرة القدم وسيلة لنشر المساواة والشغف والإلهام، وقد جئت إلى هنا من أجل هذا الهدف.. السلام».
ختم كلامه بـ«السلام»، وهي الكلمة المناسبة جداً لأختم بها أيضاً كلامي: الكراهية مرض، والكلام البذيء مرض، والخوض في الأعراض مرض، والطعن في الذمم مرض، اللهم أرزقنا الشفاء وأنت ارحم الراحمين.. «والسلام».