في حديث جمعني بصديقات القراءة، طُرح موضوع حول تلك الأعمال الروائية التي تصل لـ600 صفحة وما تسببه من ضيق وملل خصوصاً عندما لا تتوافق مع ذائقة القارئ، وكان لصديقتي «مها بوحليقة» رأي بأن هناك روايات عظيمة جداً وكانت (قصيرة) لم تتجاوز الـ200 صفحة، وذكرت أمثلة على ذلك. تأملت منطقها في ذلك الوقت باقتناع كامل ولكني قلت في نفسي: (أدب مترجم)، فكتابنا العرب لا يبرعون في هذا التكثيف! لم يمض شهر على هذا الحوار حتى وقعت بين يدي رواية «بريد الليل».
كقطع البازل المعقدة، التي تبدو وكأن لا علاقة لإحداها بالأخرى، كانت رسائل الروائية هدى بركات في عملها الأخير «بريد الليل». أوراقاً لا يبدو بينها أي رابط، وهي قناعة ستتشبث بها -عزيزي القارئ- حتى تتبين لك العلاقة العضوية الكثيفة التي تربط كل رسالة بالأخرى. تقدم لنا هدى بركات عبر رسائلها صورة بانورامية عن عالمنا، لم تكن لتجمع في عمل واحد بهذه الكثافة بأي حال. فعلى الرغم من قصر الرواية (129 صفحة) إلا أنها تناولت عدداً من القضايا بعمق وحساسية شديدة لم يكن ليتم تناولها بهذا الطريقة لو أفردت لكل قضية كتاباً كاملاً. في الليل، وفي الليل فقط يخرج مكنون الوحدة، ذلك المزيج بطعم الغربة والاغتراب، ولون هزائم الحياة، ورائحة خيبات العلاقات. وفي الليل كُتبت هذه الرسائل بنية الاعتراف والتعري، اتفق جميع من كتبوها على أمر واحد.. ألا وهو الحاجة لمن يسمعهم ليتبرؤوا ويتخففوا من عبء الذاكرة وألمها. تبدو كل رسالة بحد ذاتها -رغم غياب الأسماء والأمكنة- رواية مكتملة العناصر، الشخصيات من ذلك النوع الذي لا يمكن إلا أن تتعاطف مع كل ما فيها من قبح، واضحة وصريحة حد الإرباك. والخط الدرامي جلي ومشوق حد الألم، ولغة قوية وبهية حد البكاء، ليأتي السرد العام بعد قراءة كل الرسائل متماسكاً ومتجانساً تماماً.
عندما تكتمل لوحة البازل، تستطيع بعدها أن تخمن أسماء الشخصيات ومن أي البقاع هم، ولعلك تتمكن من أن ترسم ملامحهم بسهولة كونهم يشبهوننا ويشبهون أناساً قريبين منا جداً، ولكننا لم نحظ بفرصة لقراءة رسائلهم الليلية، رواية تحرضك على أن تكتب رسالتك أنت أيضاً.
***
ساعي البريد
في الرسالة الأخيرة التي قرر ساعي البريد كتابتها ليبث حزنه حول الرسائل التي لا تصل إلى أصحابها، ولا يعرف مُرسلها ما حل بها، ولأنه يعمل ساعي بريد في منطقة حل بها الدمار فإن أمله شبه معدوم في أن تصل الرسائل، يقول: «حين تختفي العناوين تماماً في المناطق المدمرة وتصير قرانا خالية من الناس، إلى من سيكتب الواحد؟! وإلى أي عنوان؟! حين تنتهي الحروب سوف يبحثون طويلاً عن أسماء الشوارع، وقد يعطونها أسماء جديدة، بحسب من ينتصر ويسيطر عليها».