يمضي ابن زهر الحفيد في المقطع الثالث من الموشحة الشهيرة قائلاً: يا سماك.. حسبك أو حسبي قد قضيت في حبكم.. نحبي واحتسبت نفسي.. في الحب إنها نفس لذا الحب مختارة وبالسوء أمارة لم تحفظ لنا الروايات الأدبية شيئاً عن مقام المحبوبة التي يتطلع إليها الشاعر باعتبارها نجماً عالياً في السماء، ويكتفي بالإعلان عن أنه قد قضى نحبه في الوله بها واحتسب نفسه شهيدا على أعتابها، وهي نفس اختارت الحب على ما فيه من فطنة الهلاك، فهي دائماً أمارة بالسوء. ويتكشف لنا هنا مرة أخرى طرف من سر ذيوع هذه الموشحة، فنهايات المقاطع فيها توظف عبارات جارية على الألسن مستطعمة جملاً قرآنية محفوظة وأغنيات شاسعة حيناً آخر، الأمر الذي يضاعف لذة المتلقين واستمتاعهم الجمالي. عارض الفؤاد بأشجانه ومضى على حكم سلطانه تارة أقبل في التراب آثاره وأندبه تارة يؤكد هذا المقطع ما أن ألمحنا إليه من رفعة قدر المحبوب وانتمائه إلى سرة الحكم، فلعلها إحدى الأميرات التي أصابت قلب الشاعر وحركت مواجده وأشجانه، فاستسلم لسلطان العشق، وانبرى يتتبع مظان وجودها، فيقبل التراب الذي شهد مواقع أثرها تارة، ويفتقد وجودها ويندبه مرة أخرى، معبراً عن موقفه بصورة شعرية مركبة، لا تشي بشخصية المحبوب وإن أشارت إلى عظم قدره في صياغة يسهل تردادها بإيقاعات موسيقية طروب، تمضي على نسق شعر الموشحات المنتظم في توزيعاته العروضية وقوافيه المجدولة بإحكام. لكن فتنة الموشحة ونقطة ارتكازها في خاتمتها التي تسمى “الخرجة” حيث يقول شاعرنا: أيها المدلّ بأجفانه كم وفيت والغدر من شانه وأصيح من طول هجرانه وعليش حبيبي قطعت الزيارة وعينيك سمارة هذا المزج المليح بين الفصحى الرصينة في الموشحة كلها والعبارة العامية اللعوب التي تعود للهجة الأندلسية في خاتمتها هو سر جمال الموشحات عندما تتكئ على جزء من أغنية أو كلمة سائرة، أو ترشح جملة لا فتة تصلح لأن تصبح عنوان القطعة كلها وعلامتها المائزة. وهنا كلمة منحوتة منذ القدم “عليش” وهي اختصار لعبارة “على أي شيء” ما زالت تستخدم في كثير من العاميات العربية. أي لماذا قطعت الزيارة، بينما عيناك نافذة السحر لم تفقد سطوتها على نفس حتى أصيح بهذه الكلمات، ولاحظ معي صيغة “وعينيك سمارة” التي تهمل الإعراب قصداً لتحتفظ بتلقائيتها وطلاوتها، وتتميز عن الصيغ الفصيحة السابقة عليها متممة لجملة بدأت بكلمة “عليش” لتسير على الألسن في غناء عذب جميل.