كنت أظن أن السعادة مصدرها المال والصحة وسلامة الحواس فقط، وأنها تكمن عند العائلة والأولاد والأصدقاء، ولم يدر في خلدي بأن السعادة تكمن في عقل الإنسان وروحه الطيبة وحيويته ومعاملته الراقية مع الناس حتى عشت أياماً قليلة لكنها بالنسبة لي ثمينة مع فئة من المكفوفين جمعتني بهم مناسبة رياضية، وشاهدت كم التفاؤل والمرح الذي ينثرونه على الناس من حولهم، لدرجة أني تمنيت لو لم تنته هذه المناسبة التي جمعتني بهم، حقاً إنها إرادة الخالق وعطائه وتعويضه لهؤلاء الذين فقدوا نعمة البصر، لكنهم لم يفقدوا أبداً نعمة البصيرة. كنت أتساءل مرات عديدة، وأنا جالس بينهم، بعد كل فاصل من الضحك والمقالب الكوميدية، أين توجد أسرار السعادة في هذا الكون؟ ومن هو السعيد في هذه الدنيا؟ وكيف يعيش الضرير حياته دون أن يرى جمال الدنيا؟ يقولون في الأمثال إن العمى عمى القلب والفؤاد، وقد تجد أشخاصاً أسوياء يملكون المال والجاه وكل ملذات الدنيا، ولكن لا يملكون الراحة والسعادة التي مصدرها على ما أعتقد الروح والعقل معاً. إن التاريخ العربي يزخر بالكثير من الأدباء والمثقفين والعلماء الذين فقدوا نعمة البصر، لكنهم كانوا علامات بارزة في مجالهم بفضل بصيرتهم الحادة، وجهدهم المتواصل في سبيل العلم أبرزهم الشاعر الكبير بشار بن برد. وقد أهدتنا سنوات القرن الماضي عباقرة فقدوا نعمة البصر، ولم يفقدوا نعمة البصيرة منهم عميد الأدب العربي د .طه حسين، الذي ملأ الدنيا بعلمه وإبداعاته التي كان من بينها كتابه «الأيام»، الذي حكى تجربته مع فقدان البصر، ولا ينسى عشاق الطرب الأصيل فنان الجيل سيد مكاوي صاحب رائعة «الأرض بتتكلم عربي» و»الليلة الكبيرة» وغيرها من الألحان، التي خلدها عشاق الفن الأصيل، ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن «المبصرين الحقيقيين» عبقري الموسيقى عمار الشريعي، وكثيرين حفروا لأنفسهم مكاناً في قلوب عشاق الموسيقى في كل ربوع الوطن العربي. قد يكشف العلم خلال العقود القادمة خبايا أخرى حول إمكانات هؤلاء الذين فقدوا نعمة البصر، وعوضهم الله بنعمة البصيرة التي لا تتوافر في الكثيرين، والواقع، أن اهتمام العالم بالمكفوفين شهد خلال العقود الماضية تطوراً ملحوظاً فالعالم يحتفل في الخامس عشر من أكتوبر كل عام بهؤلاء. وفي كندا يخصصون أسبوعاً كل عام للاحتفال بهم، فيما يعرف باليوم العالمي للعصا البيضاء، وكما هو معروف فإن العصا هي وسيلة المكفوف في الحركة وتحسس خطواته، وبها يقطع خطواته نحو المستقبل بسعادة يحسدهم عليها «المبصرون».