لم ينسني العلم في غربتي الامريكية الأولى الجوانب الأخرى من شيكاجو، فقد دفعتني موسيقى البلوز والجاز إلى متابعة مجلة “إبوني” Ebony التي تعني شجرة الأبنوس واللون الأسود على السواء. وكانت أبرز المجلات الأمريكية المهتمة بحياة السود الأمريكيين وثقافتهم وفنونهم وإبداعاتهم في المجالات المختلفة. ولا أعرف هل لا تزال هذه المجلة تصدر أم لا ولكني أذكر أنها كانت مدخلي الذي دخلت منه، ولم أخرج إلى اليوم إلى الثقافة الأمريكية السوداء، وأتتبع الإبداعات الأمريكية السوداء التي بدأت تأخذ وزنا، وتزداد أهمية في كل مجال، وذلك إلى الدرجة التي لا يمكن معها فهم الثقافة الأمريكية دون وجهها الأسود الذي أخذ يزداد إشراقا بسبب قانون التمييز الإيجابي الذي فرض تأثيراته الإيجابية عاما بعد عام، إلى أن وصل واحد من هؤلاء السود إلى أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة. ولم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، فقد كانت رحلة القضاء على التمييز طويلة وصعبة ولا تزال بعض جذور التمييز موجودة إلى اليوم في نفوس بعض البيض المتعصبين. المهم أن الاهتمام بالثقافة الأمريكية السوداء دفعني إلى الاهتمام بطعامهم الذي يتميز بأنه حريف لاذع. وقد اكتشفت في أحياء شيكاجو السوداء مطاعم الريبز Rips أي أضلاع الذبيحة، سواء كانت من الضأن أو العجول، فالصغيرة Baby rips والكبيرة مجرد Rips وكانت المطاعم المتخصصة في هذا النوع تنقع الأضلاع طوال الليل في شطة سائلة، ثم يتم شواؤها لكي تقدم للآكلين. وعندما أكلتها للمرة الأولى شعرت بنار الله الموقدة تشتعل في معدتي، ولم يطفئ لهيبها إلا زجاجات المشروبات القوية التي تهدئ من أوار النار. ولكن لذة هذه (الريبز) الملعونة كانت مغوية، فتعودنا على أن نمر على مطاعمها في كل زيارة إلى شيكاجو التي لا تزال لها ذكريات جميلة في ذاكرتي، منها ذلك اليوم الذي تعبت فيه للبحث عن مجلة “شعر” poetry التي أخذ عنها يوسف الخال اسمها وأطلقه على مجلته البيروتية لعلها تلعب دورا مشابها لدور المجلة الأمريكية التي أسهمت في تأسيس حداثة الشعر الأمريكي، ونشر فيها إليوت وباوند وغيرهما قصائدهما التي أصبحت علامات في تاريخ الشعر المكتوب بالإنجليزية. وهو ما حدث مع مجلة “شعر” البيروتية التي مضت على الدرب نفسه فأبرزت قصائد أدونيس والماغوط وأنسي الحاج والسياب وأقرانهم من الحداثيين العرب. ولم يكن يفوتني في زيارات شيكاجو المتعة الثقافية التي كانت تجمع بين زيارات المتاحف وبرج سيرز Sears الذي كان يرتفع إلى أكثر من مائتي طابق، لينافس عمارة أو برج “الإمباير ستيت” في نيويورك.