هذه ليست بيروت. بل إنها بيروت.تدخل إلى المدينة تحت فائض عن حاجة الليل إلى العتمة. تخترق شوارعها بما تبقى في ذاكرتك من خبرتها واختباراتها. تدرك أنك في المدينة التي شهدت ولاداتك المتعددة. تلك هي المدينة التي لم تبخل عليك بما تحتاجه من نور يطلع من قلب ظلامها البهيم أو المبهم. لكن، لا، ليست هي تلك البيروت التي كانت. بيروت الناهضة بعد كل كبوة، المتألقة بعد كل تهشيم، الممارسة لإرادة الحياة كلما سجل الموت عناوينه في منعطفاتها وشرايينها. هذه ليست بيروتك، التي كتب لها نزار ودرويش وغيرهما أجمل القصائد، وأصبحت من سمات وجهك وروحك الفارقة.. تدخل إلى المدينة تحت فائض عن حاجة السماء إلى المطر، وحاجة الأرض إلى العطش. دفقة الماء في بيروت تحيي وتميت. بين حقائق التاريخ ومبالغات رواته وسراق حكاياته، تعرف إن بيروت دفنت تحت نفسها تسع مرات. بيوتها كانت قبورها، وصروحها الشواهد.. هي اليوم ليست في حاجة إلى مدافن. تغرق في الفيضان حتى يكاد ينقطع النفس، بانتظار العاصفة الموعودة. العاصفة تهب على اللبنانيين، مرة واثنتين في اليوم الواحد، منذ أن وعت أجيالهم السالفة واللاحقة أن بلدهم يعيش على خط الزلازل. لكنهم هذه المرة ينتظرون عاصفة حقيقية تأتيهم من لدن السماء. هي العاصفة البشرى، أو العاصفة المخلصة من حماقات البشر. وربما لهذا السبب أنسنوها. أعطوها اسما أنثويا موحيا (ألكسا). لم يكن هذا الاسم، في تأويلي، تقليدا لما تمنحه الشعوب الأخرى لعواصفها من مسميات. هو عند اللبنانيين اسم تجسيدي، يجعل من المجهول القادم من غضب السماء أو رحمتها كائنا شبيها بـ -”غودو” في مسرحية صامويل بيكيت. لكن العاصفة لا تأتي دفعة واحدة. تراوغ. تتلكأ. تتردد. فيتبرم المنتظرون من مخاتلاتها، ويتندرون بأن من وصل من عندها هي ابنتها الصغرى فحسب. يغضبون لأنها تركتهم نهبا لعواصفهم الأرضية التي يصدح بها السياسيون المحترفون بلا خجل أو وجل. تحاول الانسلال مما يكدر المزاج، فتطلب زيارة معرض الكتاب المقام حاليا في قاعة فسيحة أقيمت فوق أنقاض المدينة التي ردموا بها البحر بعد الاجتياح الإسرائيلي. هناك ستجد بيروت التي عرفتها. يراودك الأمل. فبيروت هي المطبعة وهي الكتاب. في المعرض يداهمك مشهد لبناني أصيل. فهذه الفسحة التي ينبغي أن تكون بيئة نظيفة خالية من التدخين، كما تقتضي الأصول ويقضي القانون، تتلبد في أجوائها سحابات الدخان المنبعثة من سجائر العارضين والرواد على السواء. تسأل صاحب المقهى في الركن الأخير، المزدحم بالمدخنين، هل تستطيع أن تدخن فيصطفيك وحدك بميزة استثنائية: انتظر قليلا حتى يغادر مدير المعرض، ويمكنك أن تدخن كما تشاء.. تعيدك هذه الازدواجية المربكة، أو الموجعة، إلى العالم الذي جئت من أجله. عالم الكتاب. هنا تلتقي بأصدقاء أنقياء. ما زالوا يحترفون الكلمة القادرة على التغيير. أو هكذا يحلمون. تجول معهم على العناوين. تقرأ بها ومن خلالها بيروت التي تحبها. بيروت التي ربتك. تدرك أن بيروت المدفونة تحت نفسها، أو الغارقة في بحور الشوارع المرتجلة لن تموت، ولن تغيب.. ولكن، في طريق العودة يمر بك سائق التاكسي أمام مسكن الدكتور سليم الحص. تمتحن معلوماته، فيخبرك بما يعني أن رئيس الحكومة الأسبق هو آخر الرجال المحترمين في لبنان. تسأله لمن سيمنح صوته في الانتخابات المقبلة إن حصلت. يغمغم قليلا، ثم تفهم بأنه سيختار واحداً من الأراذل.. عندها تدرك أن أبناء جلدتك سوف ينتخبون العاصفة مرة أخرى. adelk58@hotmail.com