شكلٌ كله المعنى، ومع ذلك، لا يراه إلا المنقبون في الجمر. أولئك الذين يخضّون الصخرة بحثاً عن البذرة المخبوءة في قلبها. وأولئك الذين إذا غصّت الريحُ وبحّ رعدُها، أدركوا أن العاصفة مجرد جسرٍ لعبور الهواء الشقيّ. وأن السكون أصلٌ بلا أغصانٍ تتكسر، وبلا ورق يذبل أو عروقٍ تشيخ. والعارف من هؤلاء، لا يكترث للاختلاف الوهمي بين النقيض والنقيض، ذلك لأنهما قد ينبعان من الجذر نفسه، لكنهما يختلفان في الظاهر وفي الاتجاه. ويدرك العارف أيضاً، أن الذات هي جوهر التجلي، ومن دونها تؤول الموجودات إلى عدم. ولذلك لا ينخدع المبصرون بالزائل، ويرون صفته المتغيرة باعتبارها حالاً دائمة. ويرون في مظاهر الفناء والتلاشي شكلاً مستمراً لانتقال الجوهر في أبعاد لا تُدرك، وهكذا بلا نهاية. الواقع، كما تراه العين يومياً، لا دوام للحظته العابرة، لكن الذات الواعية هي التي تكسر حاجز الفناء هذا، وتؤسس لتراكم خبراتها بغية الارتقاء على فكرة الزمن، لذلك، كانت الكلمة هي البدء، حيث في محمولها الدلالي ينتقل المعنى ويتخذ ثقله المادي حتى لو كان مجرداً. وفي القصيدة التي نُسجت لأول مرة، تلك القصيدة التي أبدعها الإنسان القديم في لحظة تمرّده على المحدود والمؤطر، توالدت الأبعاد في اشتقاقات لا نهائية، لتصبح المعاني خارج دائرة المنطق البدئي، ليصبح الخيال هنا، أرضاً خصبة لابتداع حياة أخرى لا تحكمها الشروط. وعلى مدى القرون الطويلة للإنسانية، استطاع الشعر أن يؤسس لنفسه تربة خصبة، ومدى لا يحد، وربما نشأت فكرة الحرية أولاً من الشعر، وربما هي ستظل كذلك، طالما ظل الإنسان مسكوناً بالشغف، وبالحدس بأن هناك، وراء هذا الواقع الظاهر، أبعاداً أخرى للوجود يستطيع أن يجلبها من جنّة الخيال، وأن يعيش فيها وكأنها ملاذ لذته بالخلاص. اليوم، يتكرر المشهد نفسه بصور متعددة، والمبصرون الذين يفتشون عن وجه الحقيقة، يرونه في الظلال المتوارية وراء الكلام والصور. في اللوحة التي كلها بالأحمر وكأنها صرخة قلب نقي. في الصمت الذي يترنم به نُسّاك الجبال، وهو في الحقيقة عواء أرواح معذبة. ويرونه أيضاً في جرأة طفلٍ يمشي على الحبل بين حريقين، وفي يده زهرة، ومن عينه تسقط دمعة فيها زئير البحر كله. ومن شكل إلى شكلٍ، ستظل تتغير أجنحة المعنى وهو ينتقل، مثل فراشة حائرة، من حقل شوك إلى حقل ورد.