المفكر المغربي الدكتور عبدالله العروي، الحاضر ذهنيا والمتواري إعلاميا، كانت له إطلالة تلفزيونية نادرة لكي يجادل في قضية اللغة العربية. هناك دعوات في المغرب ـ ولها شبيهات في بعض البلاد العربية ـ لإحلال اللهجات المحلية مكان الفصحى. قال العروي “إن اعتماد الدارجة سيهدد الوحدة الوطنية، وسيبعد المغاربة عن ثقافتهم العليا ومحيطهم العام”. ودعا إلى تبسيط اللغة العربية لتيسير تعليمها واستخدامها. إنها دعوة وجيهة من مفكر بحجم العروي. إذا تفكرنا بأحوال لغتنا، الفصحى القواعدية، سنجد إنها اللغة الأقل استخداما. نلجأ إلى رطاناتنا المحلية والأجنبية في يومياتنا. وحينما نكتب يغلبنا اللحن. لذلك فإن التبسيط، ولنقل التهاون في بعض القواعد، يجنّبنا الخسران. لقد ضيّقوا في توصيف العربية حينما قالوا إنها لغة الضاد. حتى في هذه الخصوصية فإن أبناء العربية يجورون على لغتهم. وليس مبالغة القول إن نصف العراقيين وأغلب عرب شمال إفريقيا وبعض قبائل الجزيرة يغرزون مهاميزهم في الضاد فتصبح ظاءً.. لماذا لا نسمي لغتنا لغة المثنى، مثلا؟ في حدود علمي (وليصحح لي الأعلم)، إنها تكاد تكون اللغة الوحيدة في العالم التي تعتمد صيغة المثنى.. وكم أضنت هذه الصيغة المعلمين والمتعلمين، الناطقين والكتّاب.. وكم أربكت كثيرين، حينما تقتضي القاعدة منح القوامة للرجل، إذا ما اجتمع ذكر وأنثى في جملة واحدة.. لماذا لا نسميها لغة الهمزة، مثلا؟ فهذه الحركة المحيّرة تفسد النصوص الجميلة، تماما كما يفعل “الفيروس” بأجهزة الكومبيوتر. إنها لا تستقر في مقام. فهي كما أغنية عدوية، مرة فوق ومرة تحت. تتقدم أحيانا وتتوسط أخرى. تستقر على كرسي حينما يحلو لها، وتنفلت من عقالها حينما يطيب لها الأمر. وعلى الكاتب، دائما، أن يتتبع أحوالها ومقاماتها كمروّض خيل حرون. لماذا لا نسميها لغة نائب الفاعل، مثلا؟ مشكلة هذه القاعدة إنها تشبه أجهزة المخابرات في بعض الدول. نعلم إنها اعتقلت، واغتالت ووو.. لكننا لا نملك الدليل القطعي على إنها ارتكبت ما ارتكبته. فعليك أن تقتنع مثلا، إن الذي قام بتأدية الفعل في جملة “ضُرِبَ الولَدُ” هو نائبه. فالولد هو الذي ضرب نفسه لكي تستقيم قاعدة الصرف والنحو. أذكر أن أستاذنا في الثانوي، الشاعر الجميل الياس لحود، أخبرنا بأنه يعد رسالته للدكتوراه عن الولد المضروب.. كل ذلك يبقى في إطار الاستطاعة، إلى أن يؤول بك الأمر إلى مقام “حتى”. فهي كلمة تستعير في استعمالاتها كل الالتباسات الممكنة. فقد جرّت كثيرا من النحويين إلى دهاليزها، ولم يخرجوا منها “حتى” أعيتهم.. تلك مداعبات في اللغة، لكنها تستحق الانتباه إلى دعوة الدكتور عبدالله العروي للتبسيط والتيسير، على الأقل في طريقة التعليم، وفي الاستخدام اليومي، حماية للغة وليس للنيل منها. فلغة القرآن الكريم ستظل محفوظة في المظان والصدور، مهما تقلّب عليها الدهر. إنها فاتحة الكلم “بسم الله الرحمن الرحيم”. أدهشتنا في تلك البدايات الشغوفة مع حسن الكرمي وهو يبني “قول على قول” من إذاعة لندن(!). وسحرتنا بصوت فاروق شوشة الناعس الدافئ، وهو يقدم برنامجه “لغتنا الجميلة” بصوت أنثوي أنعس وأدفأ، يقول بلسان حافظ إبراهيم: “أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن/ فهل سألوا الغواص عن صدفاتي”. adelk58@hotmail.com