من أشد الأمور وأثقلها في الحياة، أن تقف بين يدي ابن وتعزيه في فقد أبيه، ذاك الذي كان قبل قليل يسند الظهر، ويمنع الخطوة أن تتعثر أو تزل القدم، والأقسى منها، وكأن الإنسان يثقل ظهره بحجر، ويتصعّد جبلاً، أن تقف بين يدي أب تعزيه في غياب ابنه عن عينه، وهو الذي كان مظلالاً بهُدب العين، ساكناً مُقلة العين، في الأولى تكون الكلمات عصيّة ولا ترقى لوقع الألم والفقد، وفي الثانية تخرج الكلمات متعثرة بعد أن تكون قد جرحت مجرى الحنجرة· هكذا كان فقدنا لواحد من أبنائنا بالأمس، وكأن خنجراً ثلماً حك العظم، وكأن ثقلاً أسود لا تطيقه الروح جثم عليها فجأة، وهي التي كانت توّاقه لفرح قادم طويل، فرح تتويج التخرج من الجامعة، فرح الزفاف الأبيض، فرح العمل والإبحار نحو الحياة الملونة، وفرح البقاء في المدينة عاصمة الوطن، حيث دفء الجد والجدة، وتلك القشعريرة التي تنبعث في الجسد عزة وفخراً لرؤية ولد ضناهما وهو يرتدي ملابس الرجولة المبكرة، وحيث توق الأم وشغفها وسؤالها الدائم عن الابن الذي تحبه أن يكبر، إلا في عينها، وحيث الأب المزهو حباً وأن رجلاً قادماً سيحاذي كتفه، ويتقاسم تعبه، غير أن الأقدار تنتقي دائماً أعز الناس، وتوجع دائماً أعز الناس، وتبكي دائماً عين أعز الناس، هكذا ودعنا سعيد وودعنا سعيداً في غفلة من الزمن جاءت هكذا· في الحزن الثقيل·· تصبح الأشياء مغبشة في العين، تصعب عليك أشياء كثيرة، وتتساوى عندك أشياء كثيرة، وتكون المدينة التي تحب مثل أم ثكلى معتزلة لبكائها ونشيجها غير المنقطع، وهي المدينة التي لا يليق بها إلا الفرح، لأنها تحب الجميع كأبنائها، وتدخل السَكَن إلى نفوس الجميع كأبنائها، لا تفرق أبداً، لذا·· أستميحكم العذر في غياب قصير· للشيخ نهيان كل الصلاة والدعاء·· وله صدق العزاء·· فمصابه الجلل، مصابنا، عساه يا رب يكون آخر أحزانه، فالولد نعرف أنه قطعة من لحمة العضد، ونعرف أنه السند وعكازة الأمد، ونعرف أنه ماء العين ونعرف أنه الكبد، غير أن الأمل أنت وفيك، والعوض في أخوانه، والصبر عادة·· لا يسعه إلا صدر الرجال··