سببان يجعلان قراءة عمل الشاعر المغربي ياسين عدنان (دفتر العابر) تضيف جديداً للسؤال عن محتوى قصيدة النثر وطرائق كتابتها، الأول: حول طبيعة الكتاب الشعري، فياسين لا يكتب ديواناً أو مجموعة شعرية بل يقدم قصيدة واحدة غير منفصلة الأجزاء بأية وسيلة كالترقيم أو العناوين الجانبية، سوى البياض المشير لتحول أو استئناف ولكن في القصيدة ذاتها. والثاني: يتركز في تجنيس القصيدة وإمكان الاقتراض من الفنون الأدبية المجاورة للشعر، فالشاعر يكتب قصيدة رحلة أو سفر مما اعتدنا أن نقرأه مكتوباً بهيئة السرد. وهذه إضافة حقيقية، ومقترح لإيجاد مخارج لما ضاقت به قصيدة النثر وتمركزها في الأنا الشعرية والنظر إلى العالم شعرياً، وهو ما يقربها من الغنائية كثيراً، أو يوقعها في تقليدية جديدة. ومقترح قصيدة السفر كما أود أن أطلق على العمل، يضاف لقصيدة السيرة الذاتية التي تزايدت محاولات كتابتها مؤخراً. يقودنا العنوان، كواحد من أقوى موجهات القراءة، إلى توقع مطالعة هذه اليوميات المتناثرة كخطوات كاتبها بين المدن والمطارات ووسائط التنقل والشرائح البشرية، والمواقف والمبصرات التي تتركز فيها دهشة الشاعر وقارئه، لا سيما وهو يضع في دفتره تفاصيل شديدة الدقة، لا تلتقطها إلا عينا شاعر مفتون بالحياة وتنوعها ودقائقها التي يتيحها سفر (زُيّن له)، كما يقول في إحدى عتبات الكتاب. وتأتي المداخل الأخرى لتعضيد فكرة الدفتر، فالمقتبسات المأثورة تلتمّ كلها حول جدوى السفر الذي يغدو فعلاً لازماً مقصوداً لذاته كما يقترح الشاعر الألماني هانس أنسنسبرغر، والميزة التي تسجل للعمل هي الرؤية الثقافية التي تؤكدها التناصات المتنوعة خفية أو صريحة تقوية للعمل وارتفاعاً به عن التدوين المباشر، فالشاعر ليس سائحاً عادياً. إنه يبحث في كل مكان عن توأم روحي يسأل عنه في الشارع والطائرة والسفينة والقطار، حيث الأمكنة مناسَبَة لاسترجاع ما في داخل الشاعر (أسلافي يندسون/ بين حشائش روحي/ ومحفوظاتي/ من الشعر الأندلسي)، فيسأل البائعة في قرطبة: هل تعرفين ابن زيدون؟. ويرافقه ابن خلدون طوراً، كما يلتقي بأسلاف جدد أيضاً توهماً أو حقيقة، شعراء مثل جاك بريل وسركون بولص واللعبي وأدونيس وستيتية، وستلفت الانتباه تلك الموازنة الموفقة بين شعرية القصيدة –انتظام أجزائها وإيقاعها ومجازاتها وصورها وعمل المخيلة فيها، وإغراء النزوع للتسجيلية ورصد الأماكن التي قد تكون من أشد كمائن هذا النوع الشعري خطورة. لكن الشاعر منتبه لذلك، فيقول في وصف عمله (لا أكتب عن المدن/ من وحي الخرائط/ ليس من فرط الحنين/ ولا لمجرد العاطفة).. لذا سيذكر أسماء نساء وأزقة ومشارب وشوارع، وما مر به من ضيق هنا أو هناك ويدون بذاكرة مدهشة صورا حسية متفاوتة: السناجب التي تتسلق أشجار البيت الأبيض، وأسماء النساء اللواتي التقاهن، والمرائي العابرة من النوافذ. وإذ لا غنى عن قراءة الدفتر سنختم بما عبر عنه الشاعر معترفاً: (عمر واحد لا يكفي أيتها الأسفار..أحتاج أعماراً متلاحقة/ كأنفاس/ لأنصف المدن/ وأعطي الطرق حقها).