خبران متزامنان عن مجلتين حملهما الأسبوع الماضي: واحدة ماتت، والثانية ولدت. في القاهرة، المتحولة، السائرة في طريق بلا علامات تحدد الاتجاه، أعلن الشاعر حلمي سالم رئيس تحرير مجلة “أدب ونقد”، عن قرار بإيقافها لأسباب مالية. المجلة التي أسسها حزب التجمع اليساري، عام 1984، كانت حاضنة إبداعية للثقافة الملتزمة. وضعت أطروحتها بعقلانية، تجعل القارئ الموافق أو المعارض لتوجهاتها، يحترم فيها ذلك الإنضباط.. ثم تأتي أزمة مالية سخيفة، لا تتجاوز بضعة آلاف من الجنيهات، كما ذكر، لكي تحكم عليها بالسكتة الدماغية، وتجعل رئيس تحريرها يتصور إن محاولة الإنقاذ تكون بحملة تبرعات، ينادي إليها القريب والبعيد. في الشارقة، المشرقة بفعالياتها الثقافية الدائمة، زفّ رئيس اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات الشاعر حبيب الصايغ، لزملائه الشعراء وجمهور الشعر خبر ولادة مجلة “قاف” المعنية بالشعر نصوصا، وبالشعراء أبحاثا ودراسات، والتي يصدرها الاتحاد فصلية برئاسة تحرير الشاعر الأنيق إبراهيم الهاشمي. حينما كان الصايغ، يعلن الخبر ويوزع على الحاضرين العدد الأول، في سياق فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب، كان يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ما الذي تستطيع مجلة شعرية، حديثة الولادة، أن تفعله، بعدما أصابت التشوهات الوجه الثقافي العربي كفعل ارتدادي لاختلالات الجسد العربي؟ ولعل أحد الحاضرين كان أكثر وضوحا، حينما سأل عما إذا كانت مجلة “قاف”، سوف تحمل في جوهرها أكثر مما تتيحه صفحاتها للنص الشعري، والقراءة النقدية؟ أي هل ستقلّد المجلة، بعض سابقاتها بأن تطرح مشروعا ثقافيا مغايرا، كما فعلت، مثلا، مجلة “شعر” اللبنانية في خمسينيات القرن الماضي، حينما أسست لحركة الحداثة في الشعر العربي؟ أو هل سيكون لمجلة “قاف” بيان رقم واحد شبيه بتلك البيانات التي زلزلت فوقعت تحت أنقاض ما زلزلته؟ كانت إجابة حبيب الصايغ محكمة: لن تبالغ “قاف” في حمل لواء مهمة، تقع خارج سياق مهمات الحركة الشعرية الإماراتية خصوصا والعربية عموما، حاليا. فالشعر والشعراء يحتاجون الآن إلى منابر إعلامية تنقل اختلاجاتهم، أكثر من حاجتهم إلى دفاتر نظرية تغامر في المجاهل. كل مغامرة الآن تشبه المقامرة. هذا الاختلال الحادث في الحياة العربية، يتظهّر ثقافيا بصورة مرعبة. تقول إحصائية إن المشاهد العربي يتعرض في هذه المرحلة إلى ضخ إعلامي من 150 فضائية طائفية. نعم الرقم صحيح، والتوصيف صحيح. فضائيات تؤصّل الفرقة، وتمنهج التعصّب، وتفتي بالكراهية. هذا الاكتظاظ الفضائي ولّد اكتظاظا بمشاعر العدوانية. لم يعد العربي، بصيغته الفردية أو “المجموعاتية”، يقبل بالآخر من بني جلدته. الكل يفترضون أنهم على صواب، وإن سكاكينهم المشحوذة هي الأمضى. يعتقد حلمي سالم إنه يمكن أن يحلّ مشكلة “أدب ونقد” بالتبرعات. فلو افترضنا أنه حمل صينية ووقف على ناصية شارع يدعو للتبرع لمجلته العقلانية، ووقف بجانبه آخر مجلبب بصينية أخرى يدعو لتمويل فضائية طائفية.. فأي الصينيتين سوف تمتلئ؟ إنها أزمة “هويات قاتلة”، بحسب تعبير أمين معلوف، هذه التي نعيشها اليوم. هويات مختزَلة (بفتح الزين) ومختزِلة (بكسر الزين)، تكشّر عن أنيابها، فتصبح أبشع سلطة مصادرة للعقل العربي في تاريخه. مهمة المثقف العربي، والشاعر على الخصوص، هي البحث عن طريق للخروج من نفق الأدلجة العنصرية ودعاويتها المقرفة. وهي مهمة صعبة لأن وسيلتها ليست إلا الكلمة الرائقة، والصورة الموحية، والفكرة اللامعة، والمناقشة الهادئة.. وهذا ما حملته صفحات العدد الأول من “قاف”. عادل علي adelk58@hotmail.com