كان غياب الشاعر يوسف الصائغ (الموصل 1933 ـ دمشق 2005) مناسبة لتفجر الجدل والخلاف حول الموقف الأخلاقي والإيديولوجي للشاعر، وعلاقته بالقيمة الفنية والإنجاز والمستوى الذي قدمته أعماله المتنوعة في الشعر والرواية والمسرح والسيرة الذاتية. ولعل كتاب د. أثير محمد شهاب “إخوة يوسف” بغداد 2011، يجمل الجدل ومسوغات أطرافه، رغم انحصاره في حالة يوسف الصائغ دون التعمق في الظاهرة التي وعدنا العنوان الجانبي للكتاب بالتصدي لها، وهي (الإدانة في الثقافة العربية ـ أزمة هوية، إشكالية وطن) فظلت تلك الإدانة في إطار الثقافة العراقية، كما نصت مقدمة الكاتب وحيثيات الكتاب المكرس لما كتب عن الصائغ قبل رحيله وبعده، استنادا إلى موقفه الذي تغير بحدّة من العمل السياسي ضمن الحركة الشيوعية والتعبير عن قناعاتها في منجزه الأدبي، إلى الولاء للسلطة وتمجيد رأسها شخصا وفكرا، ما أثار مشاعر العراقيين الذين اكتووا بجحيم طاغية لا يمكن تبرير الولاء له كموقف مقبول أو قناعة سليمة، رغم الاتفاق على قيمة شعر الصائغ ومؤلفاته، ودوره في المنافحة عن الشعر الحر، والسمات التقدمية للحداثة، كما تمثلت في رسالته للماجستير عن الشعر الحر في العراق، وفي مواضيع نصوصه ومضامينها المنطلقة من رؤية الخطاب اليساري وأفكاره. وأحسب أن ما وصفه الكاتب بالإدانة هو في حقيقته خلاف عميق ذو جذور معرفية وجمالية تجاهلها الكتاب المنشغل بتصنيف ردود الأفعال المتباينة حول الاحتفاء بالرجل بعد موته وقبله، والتي تصل حد الشتيمة والتخوين والإلغاء، بينما تذهب في هوس الإعجاب وحماسته إلى تصوير الصائغ ضحية الجحود والنكران والتجاهل بسبب التحزب والسياسة. والأمر في الواقع يتعدى ذاك وقد كشفت عنه المقالات المكتوبة بعد وفاة الشاعر خاصة، والتي كان الكاتب مصيبا حين عرضها كلها للقارئ، فالموقف الجمالي من النصوص يتحول بسبب عدم مطابقته لرؤية القارئ؛ فينزع عنها جمالياتها وقيمتها الفنية، ومدى تمثلها للحالة التي أراد الشاعر أن يحيط بها ويعبر عنها. هكذا يتم الدفاع مثلا عن كافوريات المتنبي بكونها تجيب عن (الكيفية) التي قدم بها الشاعر تجربته، لا عن دلالتها ضمن سياق الفكر العام أو المزايا النفسية؛ كالتقلب والمحاباة والطمع وسواها، وبهذا وصف إليوت عزرا باوند بالصانع الأمهر حين أهداه إحدى أفضل قصائده رغم فاشيته المعروفة، ولكن الانسحاب من النص إلى الشخص هو الذي سيجعل الموقفين المتاينين من يوسف الصائغ يعانيان من نقص معرفي، فلا الصائغ ضحية بدليل ماكتب عنه في بغداد ذاتها، ولا هو بالخائن الذي تسقط شعريته لموقفه السياسي، وربما كان الأجدى لو ضرب المؤلف أمثلة معاكسة عن شعراء ومثقفين حرم النظام السابق، بسبب خلافهم معه حتى توثيق وفاتهم، ولم يكتب عنهم سطر واحد كالبياتي والجواهري ومصطفى جمال الدين وبلند الحيدري. ورغم جناية السياسي على الشعري فليس ليوسف إخوة حاسدون ينظرون إليه في جب موته بفرح، ولا أحد ينزع عن نصوصه حسنها أو يضيف إليها ما ليس فيها.