خلال جلسة الأربعاء الماضي لجماعة الأدب في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، فاجأنا الصديق الشاعر المصري نبيل أبوزرقتين بخبر مغادرته الإمارات نهائياً عائداً إلى بلده، بعد قضاء ثلاثة وثلاثين عاماً، قضاها عاملاً في المؤسسات الوطنية، وكاتباً في الوسائل الإعلامية، وشاعراً متميزاً باللهجة العامية المصرية واللغة العربية الفصحى، ومشاركاً في الحياة الثقافية، وبعدها بيومين فوجئت برسالة نصية هاتفية من الصديق الشاعر والمخرج المسرحي السوداني الدكتور عز الدين هلالي، ولا شك في أنه أرسلها إلى أصدقائه ومعارفه، يقول فيها “وأنا أغادر هذا الوطن المضياف عائدا إلى وطني السودان، أتقدم بالشكر إلى شيوخه وشعبه، مواطنين ومقيمين، وأعفوا عمّن ظلمني، وأسأل كل من أخطأت في حقه أن يسامحني، واسأل الله لنا جميعاً العفو والعافية، وطول العمر وحسن الختام والفردوس الأعلى”. لوهلة ما، شعرت بالدكتور عز الدين وكأنه لا يغادر الإمارات فحسب، وإنما يغادر الدنيا، فاستخدامه لمفردات مثل “حسن الختام، والفردوس الأعلى” وطلب العفو من الناس، بقدر ما تعبر عن أخلاقه العالية وإنسانيته الرقيقة، بقدر ما تعكس ألماً في روحه لمغادرته بعد حوالي 30 عاماً قدم للفن المسرحي في الإمارات الكثير، وساهم في تطور المسرح المدرسي، وتخرج طلاب على يديه في الجامعة، ناهيك عن حضوره الجميل في الساحة الثقافية، وما زلت أذكر كيف أنه بكى وهو يلقي قصيدة في الذكرى الأولى لرحيل المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس الإمارات. وقد لمست الأمر ذاته في ملامح وجه الشاعر أبوزرقتين، وهو يحدثنا عن قراره المغادرة النهائية، وكان الحزن بادياً على ملامحه وصوته، على الرغم من أنه حاول أن يخفي ذلك كله بروحه المرحة. مثقفون ومبدعون وفنانون كثيرون عاشوا في الإمارات سنوات طويلة وغادروها لسبب أو لآخر وبشكل نهائي، لكنها بقيت في داخلهم بيضاء كوجه الصبح، وشامخة كنخلة، وذكرياتهم فيها تُستعاد بشيء من الفرح والحزن أيضاً، وخلال زيارتي في شهر سبتمبر لعمّان، قابلت الصديق الشاعر محمود مرزوق الذي عاش في الإمارات ست عشرة سنة، وحدثني عن أبوظبي كأنه يحدثني عن حبيبته، يسألني عن جديدها، وبحرها ومؤسساتها، وعن اتحاد الكتاب والمجمع الثقافي وأسماء مبدعين ومثقفين لم يغيبوا عن ذهنه أبدا، ولم أقابل أحداً يشتاق إلى مدينة كما يشتاق محمود إلى أبوظبي. بعض الأمكنة لها سطوة على روح الكائن، يتشكل وفق ملامحها ورائحتها وتضاريسها، هذه أمكنة حاضنة، تنقل دفئها لكل من يتحرك في قلبها وجهاتها، وإنسانها يقوم بالدور الأكبر في خلق هذه العلاقة بين المكان والكائن، وكثيرون يتمنون لو يصرفون حياتهم فيها، ليس لسبب مادي، وإنما لحب حقيقي، رسمته الأيام على جدران القلوب، ويكفي أن يقول المسافر، وهو في وطنه حين يتحدث إلى أصدقائه: “نحن عندنا في الإمارات..”.. فإذا غادرها نهائياً، سيكتب بلا شك ما كتبه الدكتور عز الدين هلالي.. وسنشعر أنه يغادر الدنيا. akhattib@yahoo.com