لم أكلمها. مرت أشهر ولم أتصل. كان الصمت درعا واهيا. غلاف هش يوهم بأن الأمر الجيّد هو أن لا تسمع السيئ. وهي كانت تجيد هذه اللعبة. تحكي عما يفرحها. تخبر عن فرح الآخرين، عن ضحكات الحياة المخبأة من أجلهم، وحينما يصل الكلام إليها، كانت تكذب. كنت تعرف إنها تكذب، وهي تعرف إن غلافك الهش لن يحميك.. لم تفكر مرة إن هذه اللعبة سوف تنتهي عندما تحين الساعة. ربما لأنك كنت تعتقد إن النساء لا يمتن. هن هكذا دائمات الحضور. الأمهات وحدهن اللواتي يلوحن التلويحة الأخيرة. وهي، التي لم تأتها الأمومة يوماً، كانت منهن. كانت تكتنز بفائض من الأمومة توزعه على الأطفال والنساء والرجال. تمتحنك بالأسئلة نفسها التي هدهدتك بها أمك من مهدك إلى.. لحدها. كثيرون عوضوا حرماناتهم الأمومية من معينها. وهي لم تكن تبخل، حتى على الذين فارقوا أو افترقوا.. لأنها لم تغضب، ولم تحقد. تقول مبررة: إن الحقد يحتاج إلى طاقة لا أمتلكها.. وليس هناك، ما، أو من يستأهل تضييع تلك الطاقة التي تفتك أولا بصاحبها. منذ لحظة اللقاء الأول سوف تتعرف فيها على تلك الطفلة الشقراء، المحبوبة، المكتنزة، المطارِدة والمطرودة من نعم الحياة. سوف تغزل تلك النعم حكايتها مع المرض المقيم، والمتنامي. ستكون حكايات المستشفيات، وقوانين الأطباء جزءاً من الحبكة الروائية، لكنها ليست الرواية كلها، لأنها، ببساطة، خلطة من الوجع والنجاح.. تلك الطفلة الشقراء المعجونة بآلامها، ستكون في مطلع شبابها أول صحافية عربية أو أجنبية، تخترق معاقل المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي. ستواجه الأهوال معهم، لكي تعود بالقصص الأولى عما يحدث وراء تلك الجبال البعيدة. بعد سنوات سوف تخترق الحصار إلى كوسوفو. تعاين مأساة أهاليها، وفي مرحلة ما تتخلى عن مهمتها، لكي تصبح مسعفة أو منقذة أو مجرد متطوعة، تبحث عن جرعة ماء أو حبة دواء لمن يحتاجها. وهكذا فعلت في حرب اليمن. كانت على خط النار، بين المتحاربين، وكاد رصاصهم يجتمع عليها.. تعود من تلك الميادين ناجحة وموجوعة فيكتب عنها أديب عربي إنها تستحق وزنها ذهبا. ذلك الوزن الذي كان ألقها ولعنتها في آن. ستكتب عنه نصا بديعا بصدق ورهافة. لا تستحي بالأسباب القديمة، ولا تهن أمام التداعيات. تعرف إن عليها أن تواصل حياتها من أجل الذين يستحقونها. وقد كانت تبحث عنهم، وكانوا يجدونها. على الأرجح إن ذلك الرجل البنغالي، وزوجته، ما زال يحتفظ بصورتها على جدار مطعمه المتواضع، المفعم بالحميمية، فقط لأنها عرفت كيف تخترق جدران خوفه من الحاضر والمستقبل. ومثله السائق الباكستاني في أبوظبي، التي أقامت صلات مع أفراد عائلته، زوجته وبناته وأبنائه، دون أن تلتقيهم أبداً. ??? بعد منتصف الليل بقليل، ينكسر غلافك الهش. يخبرك الهاتف بالأمر السيئ الذي كنت تزيحه بالوهم الجيّد. لا تفعل مثلها، هي التي ذرفت دموعها على كثيرين رحلوا. تجد نفسك في تلك الشقة الصغيرة التي تفيض بحشد من الأصدقاء. كلهم يجتمعون عندها، ومن أجلها. فتجعلك تفوز بهم جميعاً. تجد نفسك في صالة (البولينغ)، تستعيدان طفولة، ما كانت هكذا. أو في ضاحية (إيلينغ)، حيث تتشابك الحكايات وتسترسل الأحلام، أو تنتصب أمامك اللحظة التي تفيق فيها من التخدير الطبي، لتجدها فوق رأسك تخبرك بأن الحياة ما زالت تليق بك.. هذا الصباح أسمع صوت مظفر النواب: «لا، لا، مو حزن، بس كلش حزين». نورا فاخوري، سوف أكذب عليك هذا الصباح: أنا لست حزيناً.. adelk58@hotmail.com