“ماذا لو عشتُ حياتي في زمن آخر وأرض أخرى؟ هل كانت الكوابيس تمحقني وتوصد الظلال؟ لي في العراق ثمرة حياة مقضومة/ وحمّى طويلة تسهر بين الخراب أنا الانسان البائس أبحرت من مالمو الى البوّابات العظيمة لنينوى المحفورة في غصن الحكاية”. تلك هي تساؤلات نصيف الناصري وإجاباته عليها في ديوانه الذي يوجهنا عنوانه “خرائب أيّامنا” بتزاوج المكان والزمان إلى جملته الشعرية المرهونة بالخراب والخرائب.. وتحفزنا على استذكار خراب كافافي: الوصفة الشعرية المستعادة عن حياة ستكون خرابا عاشه في مدينة أولى. الناصري ثمانيني بحسب التجييل الشعري العراقي؛ من الجيل الذي أكلت عمره الحروب والفقدانات التي تمتلئ بها قصائد الشعراء الطالعين في فضاء قصيدة النثر التي لم يكتب نصيف سواها بعصامية فذة، ولم يذهب بعيدا عن مناخاتها منذ “جهشات” ـ ديوانه المبكر المخطوط والذي ينبئ بإيقاع حياته الغجرية ـ رغم عفوية وعيه وتشكله البريء إلا من نداءات الحرية التي طافت به في الثكنات والمواضع وأسمعته الرصاص والقذائف، لكن صوت القصيدة ظل الأكثر دويا في انشقاقاته عن السائد في الحياة، والمألوف في الشعر مدشناً تقاليد أسلاف الشعراء الصعاليك وحديثهم كجان دمو الذي له نصيب في قصائد الناصري عبر عمل شعري سابق عنه وقصائد مهداة له في الديوان.. من الناصرية إلى بغداد وإقامات خارج العراق ارتحل الناصري كالغجر لتصل خطاه إلى السويد، ويتغير وجه حياته وجوانبها: شفيعة العراق بشفيعة السويد، والغنائيات الجزلة ومفارقات التطابق والتناقض بانسيابية واستراحة تنعكس في لغته وأفكاره وتنظيمه لفوضاه التي لا تزال تنضح بها قصائده. لا مبالٍ الا بحريته، ولا دمع باقٍ لديه ليذرفه على ماضيه؛ ولكن لا يمكنه ان يغمض عينيه عن الماثل: خراب ورماد وموت؛ فيهرع إلى أدبيات العراق القديم في سَفر شعري معاكس؛ ليستلهم الترانيم القديمة وخطاب الملوك لرعاياهم في حرب ضد التهميش والظلية التي عاشها جيله. ومع الحكمة تهدأ اللغة؛ تلتف حول كلماتها الاسطورية وأخيلتها صفات ملفتة في عناوين قصائده مثل: التحليقات الهزلية، الشروط الصحيحة، الالتزامات الكبيرة، التبادلات الفعّالة، السقوف الطويلة، الفراديس العالية، البرية النائمة، مشياتنا المتعرجة، صدماتنا المستمرة وغيرها مما يشير إلى ولعه بالتمثيل لغرض التقريب والتوضيح كمهمة تفسيرية يهبها التعقل الذي نلمحه في صياغاته وانشغاله بالكوني المنبثق من خلق الانسان وعدمه، وصراع شره وخيره؛ وأساطيره التي صدقها وعاش حياته بقيود نواميسها. ويقترض الناصري من النثري ليمنحه وجودا شعريا على صفحته المتسعة لذلك التعقل. وكتلخيص للمهمة الشعرية يصرح الشاعر: “أنا شاهد زمن المحنة”. لكنه خائف؛ ليست له طمأنينة الحكيم فيهرب النص فجأة للخيال: “يركض خلفي تابوت/ ويكسر أغصان مرضي العضال/ وقنديل حياتي العليل يرتعش في النسيم المصلصل للظلمة... أحلامي ميتة كلها” تلك أبلغ إجابة عن إمكان وجود زمن آخر وأرض أخرى لن ترفع حتما عن ظهره صخرة الألم.