سألني صديق: ما رأيك في عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود؟ ومن منهما أقرب إلى صفة الفيلسوف، وصاحب مكانة كبرى؟ أجبت دون تردد: عبدالرحمن بدوي. سألني الصديق: ولماذا؟ قلت لأن عبدالرحمن بدوي أهم وأكثر إنجازا، كما وكيفا، في المجال الفلسفي، وأكثر إنجازا وتنوعا في غير الفلسفة التي هي تخصصه الدقيق، وذلك يعلي من مكانة عبدالرحمن بدوي، ويهبط بمكانة زكي نجيب محمود. أما في الفلسفة، فقد اقترب بدوي من الفلسفة الوجودية، وظل يبشر بها، فشغل الدنيا والناس، وذلك منذ أنجز كتابه العلامة “الزمان الوجودي”. وهو إنجاز أصيل، يحسب على الفلسفة الوجودية، ويضاف إليها إضافة الأصالة الموازية لإنجاز أعلام الوجودية، فهي ليست شرحا أو تفسيرا أو اتباعا لشخص أو فكرة، وإنما إبداع ذاتي يضيف كيفيا إلى الفلسفة. ولذلك استحق عبدالرحمن بدوي أن يمنحه طه حسين لقب أول فيلسوف عربي في عصرنا الحديث. أما زكي نجيب محمود فقد ذهب إلى إنجلترا، ودرس على يدي أحد أعلام الوضعية المنطقية، وهي فلسفة مترتبة على التقدم العلمي الذي جعلته الأصل، فتقلصت مهمة الفيلسوف إلى عملية تحليل لغوي، وقياس كل شيء في اللغة بمقياس الصحة التجريبية المنطبقة أو غير المنطبقة على الواقع. وانطلق عبدالرحمن بدوي بمنظوره الوجودي إلى إعادة قراءة التراث، فاهتم بلحظاته وشخصياته الوجودية، فترك كتابه العلامة “شخصيات قلقة في الإسلام” وغير ذلك من الشخصيات واللحظات التراثية. وترجم عددًا مذهلاً من تراث المستشرقين عن الفلسفة الإسلامية والتاريخ الإسلامي على السواء، منحازا إلى حرية التفكير باستمرار، وإلى اللحظات الدالة في التصوف الذي يسعى إلى معانقة الحقيقة المطلقة في الوجود. ولا أظن أي دارس للفلسفة الإسلامية يمكن أن يستغني عن ما كتبه عبدالرحمن بدوي وترجمه في وعن التراث العربي الإسلامي. وما أفقر كتابات زكي نجيب محمود في ذلك الجانب. لقد ظل عازفا عن التراث، ميالا إلى كل ما هو معاصر في العلم، منحازا إلى الكشف عن “خرافة الميتافيزيقا” وهو كتابه العمدة الذي شرح فيه وعرض للإنجازات الوضعية المنطقية التي يظل شارحا لها، داعيا إليها، في أفضل أحواله. لكن بما لا يتيح لنا أن نصف إنجازه في هذا المجال بأنه إنجاز كيفي، لأن هذا الإنجاز سيظل في دائرة التعقيبات الشارحة للوضعية المنطقية التي لم تلق الانتباه الذي لقيته الوجودية، ولا الحماس الجماهيري لها، فالوجودية فلسفة فعل، قائمة على اتخاذ موقف من الوجود، وفي الوجود على السواء، ولذلك توصف بأنها فلسفة مبادرة واقتحام والتزام، وليست دعوة عزلة أو اقتصار على تحليل قضايا لغوية. أما التراث، فإن زكي نجيب محمود بعيد عنه، إلى أن أدرك أهميته في سنواته الأخيرة، فكتب كتابيه “تجديد التراث” و”المعقول واللامعقول في التراث”. وهما كتابان يعرضان بقدر ما ينحازان للتراث العلمي المعقول في التراث، فهما أقرب إلى التعريف التنويري البسيط للتراث. لا أكثر.