في غابة الحيوان، تلتقط الحيوانات النباتية عشبها الأخضر حبَّة حبَّة، سنبلة سنبلة، متحاشية المساس بالحشائش اليابسة، لأنها لا تفيدها ولا تضرها.. وتحذو الحيوانات اللحمية حذو النباتية، إذ تهيم الضواري بين الأحراش والأعشاش بحثاً عن غنيمة، وما أن تعثر على فريستها وتملأ أحشاءها بما يشبع، تلتقط أنفاسها متفيئة الظلال، مسترخية راضية مرضية، وإن مرَّت في محيطها فريسة، فإنها تغمض العينين، مكتفية بما ملأ البطن ورطَّب البدن.
في غابة الإنسان، يأكل ولا يشبع، وإن شبع طمع، وأصابه الجشع، يكشِّر ويُشمِّر ويَحْشر وينْشر، ويَسْبر ويَضْمر، ويُدمِّر ويغامر ويقامر، لا لأجل إشباع جوع بدني، وإنما من أجل إسكات نفس أمّارة لا تسكتُ ولا تصمتُ، ولا تخمدُ ولا تجمدُ، ولا تحمدُ ولا تسعدُ، بل ترعدُ، وتزبدُ، وتجردُ، وتفردُ، وتبددُ، وتقددُ، وتبيد، وتميد، ولا تحيد عن شيطان التبذير في الطمع والإسراف في الجشع.
في غابة الإنسان، النفس البشرية إن تلجمها قيم ومبادئ تتحول إلى طوفان جارف، نازف بالحقد والكراهية، غارف من أطباق الأنانية، وارف بالأعشاب الشوكية، راعف بالسموم والسقوم والهموم، فالموظف البسيط، يريد أن يرتقي إلى رئيس قسم، وإن تحقَّق هذا تطلَّع إلى درجة المدير، وإن لم يتحقق له شيء من ذلك كله، فإنه مستعد أن يغربل ويزلزل ويجلجل، ويقلقل ثم يحلل ويدلل على سلوكه أنه إنسان مظلوم.. في غابة الإنسان الابن البليد يتهم والديه بالتقصير في مساعدته لتجاوز محنته الدراسية أو الوظيفية أو الزوجية.. والأب الضعيف يتهم الأبناء بعدم تحقيق أمنياته كأب يحلم بأن يكون ذا شأن وفن.. والزوجة الثرثارة تلقي باللائمة على الزوج بأنه لا يُلقي بالاً لحديثها، ما يضعفها أمام الآخرين.. والزوج المشغول بنفسه يتهم الزوجة بأنها لا تحقق له ذاته كونها لا تلبي له مطالبه الإنسانية، متى ما أراد.. المدير الذي لا يفهم في تفاصيل عمله، لا ألف ولا باء، يتهم موظفيه بالتقصير والسعي لإفشال مهمته كمدير.
حتى سائق التاكسي، إن لم يجد زبوناً، فإنه يتهم الناس بالعجرفة والبطر، لأنهم استغنوا عن المواصلات العامة، واستخدموا الخاصة..
في غابة الإنسان، اللائمة وليمة النفس اللوّامة، وعشبها الذي تقرض أوراقه بلا شبع ولا قناعة، ولا مناعة، ما يجعل البؤس البشري، ثالوثاً، يتغشى وينتشر ويستعر ولا يستقر، وفي غياب القيم الأخلاقية وانحسار الشيم، واندحار المشاعر ذات البعد الإنساني العميق، يستمر هذا الطحن والسحن، والمحن، وتستمر الفكرة الجهنمية القابضة على فكر الإنسان الأناني وهي “الآخرون هم الجحيم”.. متجاوزة نظرة جانبول سارتر حول الناس أجمعين.
لا يستطيع الإنسان التخلص من هذا الفكر السوداوي، طالما سرَّب الفكرة الأساسية وهي أن الإنسان كائن اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش من دون المجموع البشري.. وطغيان الأنانية يحول الأعشاش إلى نعوش، ويستميل المنجز الإنساني إلى مجرد نقوش قديمة قِدَم الدهر، تراكم على بقاياها الغبار والدمار.



marafea@emi.ae