أجلس أحياناً لساعات أمام الورقة البيضاء، أضع أصابعي على لوحة المفاتيح. أقول الآن أصابعي ستعرف ما يريد أن يقوله عقلي. الآن أصابعي ستتحرك من تلقاء نفسها وتكتب كل ما يدور بعقلي. ففي العقل تعتمل أفكاراً كثيرة. تمضي الدقائق، تتبعها ساعات، ولا تطبع الأصابع شيئاً. تتراقص الأفكار أمامي، أراها كأنها في حفلة رقص. لا تتوقف عن الحركة. تدور، تقفز، تقف، تتحاور، تتحرك مثل أمواج بحر، لكنها لا تخرج من قاعة الحفل المغلقة بسهولة. كيف يمكن اقتناص الأفكار المتطايرة أمامك، وتطويرها على الورق؟ ما هو الحبل السري الذي يربط بين حركة الأصابع في فعل الكتابة وبين العقل؟ ما هي قناة التوصيل السحرية التي تنتقل عبرها الأفكار من العقل إلى الورقة البيضاء والتي تعمل بحيوية أحياناً وفي أحيان أخرى كثيرة يصيبها العطب ؟ وما أسباب عطبها؟. في إحدى الروايات، كان المؤلف يتحدث كثيراً. يطرح أفكاراً كبيرة كثيرة، تقريباً قال كل شيء. كان كمن مُنح أخيراً حرية الكلام قبل أن يموت فأراد ألا يفوته قول شيء، لذلك انتهيت من قراءتها دون أن أستوعب منها شيئاً. كأس الماء حين يكون ملآن لآخره يبدو فارغاً للوهلة الأولى. ربما السر يكمن إذاً في «استمرارية إفراغ العقل من الأفكار المتصارعة بداخله، وذلك باستمرارية التعبير عنها». الصمت الطويل، مثل الضجة، من شأنه أن يكون أحد أسباب العطل الذي يصيب قناة الإرسال الواصلة بين الرأس والأصابع. لكن عملية «التعبير» لا تتأتي بسهولة دائماً. قد يعرقلها حائط يظهر فجأة. أو سقف ينخفض فيكسر انطلاقة الصوت إلى الفضاء ليرتد إلى الأرض ضعيفاً باهتاً. مثل الطفل الصغير الذي قد يصاب بداء التأتة إذا ظلت أمه توبخه كثيراً في كل مرة ينطق بشكل لا يعجبها. وتبدو «الحرية» هي الكلمة السحرية. عملية التعبير تحتاج حرية. تحتاج اطمئناناً. من هنا جاءت كل هذه الضجة العالمية حول عبارة لغوية استحالت لقانون اسمه «حرية التعبير». الأفكار كثيرة. والأفكار الكثيرة تأتي من الاهتمام الكبير. الاهتمام بما يجري في المشهد الخارجي، بما يجري في المكان، بما يجري في النفس من تغيرات الزمان، بما يجري لك أنت كإنسان. هذا الاهتمام لا يعمل الكاتب على اكتسابه، إنما يجده مخلوق فيه كما خلق الله في كل البشر حاجاتهم الفطرية. ولكي يتعامل معه عليه أن يعبر عنه. بنص قصصي، بقصيدة شعر، بمقال صحفي، وبالثرثرة مع صديق إن انعدمت كل هذه الوسائل. التعبير الحر ينبع من اهتمام صادق بالصورة العامة لأن تكون أجمل، أنقى، وأكثر صفاءً. وهذا لا يجب أن يجرح أحداً. سألني أحدهم مؤخراً عن ورشة تعليم ربط الأفكار وصياغتها. كان يقصد أن لديه أفكاراً كثيرة يريد أن يتعلم كيف يعبر عنها بالكتابة لكنه لا يعرف كيف يمسك بها. فكرت قليلاً، هل توجد ورشة كهذه فعلاً؟. هناك ورش تعليم الكتابة، ولكن هل هذا شيء حقيقي؟ هل يمكن تعليم الكتابة؟. أليست الكتابة مجرد تعبير عن أسلوب الحياة؟. إذا نشأت وأنت تخاف. وأنت تحسب خطواتك. وأنت تمضي وقتاً أطول في مراقبة ردود أفعال الآخرين حول أفعالك أكثر من تركيزك على أفعالك ذاتها، وأنت ترتدي ما تعتقد أن الآخرين يحبونه أكثر مما تحبه أنت، وأنت تقول ما تعتقد أن الآخرين سيحبون سماعه أكثر مما تريد أن تقوله أنت، إذا نشأت هكذا، هل يمكن أن تكون كاتباً حقاً؟. مريم الساعدي | Mariam_alsaedi@hotmail.com