لم تعد الرواية ملحمة الطبقة الوسطى ولا المعبّر الحامل لهموم الطبقات والجماعات والإيديولوجيات بقدر تمثيلها لعناء الذات وعذاباتها؛ وهذا يفسر معالجة الأعمال الروائية للقضايا الكبرى من خلال انعكاسها على الفرد ووعيه. لكن كتاب الدكتور محمد برادة “الرواية العربية ورهان التجديد” يحتوي على رهان نقدي يتقدم التحليل الروائي، ويفترض أن الرواية الانشقاقية العربية التي أوصلت التجديد ذروته إنما جاءت بفعل ما حصل في حزيران 1967 الذي يعتبره الكاتب تاريخا يكرس انشقاق الرواية العربية عن الخطاب التقليدي، وهذا التزمين للتجديد يوافق النزعة الاجتماعية والتأثر المنهجي بالبنيوية التكوينية تحديدا لدى الدكتور برادة ومنذ كتاباته النقدية المبكرة، لكنه هنا يورد من التطبيقات ما يبرر رهانه؛ فهو يلاحق اللغة، والشكل، والموقف من التابوات الثلاثة في السرد وهي الجنس والدين والسياسة، وحضور الذات والمعرفة في الروايات التي طبق عليها توصلاته النظرية بصدد مفهوم الرواية الجديدة التي يحدد حدتها بكيفية توظيفها للعناصر الشكلية والدلالية باختلاف مع سابقاتها، وبتدرج الرواية من التجديد فالتجريب ثم التحديث، منطلقا من أن الكتابة تمثل تفاعل وعي الكاتب مع شروطه التاريخية، وأسئلة ذاته داخل مجتمعات تمور بالصراعات والاستلابات، ما يراه سببا لتزكية مدونات الستينيات الروائية، بينما يصنف بعض كتابات السبعينين ضمن (الطلائعية) التي شابها “الهذيان.. وتحطيم الأشكال والأجناس لصالح كتابة منفلتة لا تهتم بتشييد بديل جمالي”، وقد وددنا لو وجدنا في التطبيقات المميزة التي خُتم بها الكتاب ما يؤيد ذلك، كما وجدنا في التحليلات الموجبة لكتابات روائية تصادت مع سياقات الهزيمة الستينية ودويها الهائل في الوعي والوجدان، ولئن كان الكاتب يحترز من مفهوم زمن الرواية وتسيدها على فنون عصرها، فقد أشاد بما أسماه الانفجار الروائي العربي مابين 1960 و1980 رغم أسبقية بعض الأعمال لتاريخ الانشقاق الذي افترضه في 1967 مثل “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح التي حظيت بنصيب وافر من القسم التطبيقي في الكتاب، و”الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، و”أنا احيا” لليلى بعلبكي، وروايات العراقي غائب طعمة فرمان وغيرها. لكن التجريب سيحظى بوقفة دراسية طيبة للانتقال الحاصل فيه من العلمية التي أرادها إميل زولا إلى توليد أشكال جديدة تكسر رتابة المتوالية الخطية للشكل الروائي وتقليديته. يتحفظ الكاتب على ما تعاني الرواية العربية من أزمات تتصل بالتسويق السطحي أحيانا، ومجاراة السائد، وتلبية أفق الجمهور العام والتسلية والترفيه، أو التقليد والاستنساخ والابتعاد عن المجتمع، والتفاعل مع المنجز العالمي، لكنه بيقين يبعث على التفاؤل يقرر أن المنجزات النصية العربية حققت على مدى قرن تراكما ينطوي على مقومات جمالية ودلالية ترقى إلى مستوى الفضاء العالمي، رغم ما يعترضها كالوضع الاجتماعي المنغلق، والمحاصر بأنظمة سياسية لا ديمقراطية. ويظل للكتابة النقدية برأي الكاتب دورها في بلورة التجديد، وإنارة أعمال الشباب، والتقييم بما يوافق المستجدات في المعرفة والإنجاز الروائي.