واحد من كتب صلاح عبد الصبور التي أحبها كتابه “ماذا يبقى منهم للتاريخ؟”. وهو محاولة لغربلة تراث العمالقة الثلاثة طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، والحق أنني لو سألت نفسي: ماذا يبقى من أنيس منصور؟ لكانت محاولة الإجابة دالة، فالرجل عاش علما من أعلام الصحافة العربية، وأسهم في كل مجال تقريبا، وأذكر أنه أسبق الكتاب العرب اكتشافا للعبقرية المسرحية للكاتب السويسري دورنمات، وله الكثير من الكتب في أدب الرحلات، والعديد غيرها عن الذين عرفهم وتأثر بهم. وكتب أنيس منصور عن الفلسفة الوجودية التي قاده أستاذه عبد الرحمن بدوي إليها وخصه بمهمة تبسيطها، وترك لنا أنيس منصور كتابه عن علاقة التلمذة التي ربطته بالعقاد، وأثمرت “في صالون العقاد كانت لنا أيام”، وأضف إلى ذلك مسلسلات تليفزيونية وآلافا مؤلفة من عمود “مواقف” في المجلات والجرائد المصرية والعربية التي جعلت من قلم أنيس منصور الرشيق جاذبا لكل عين تقرأ، ولذلك أصبحت كتبه بين الكتب الأكثر رواجا في العالم العربي. ولكن رغم ذلك كله ماذا يبقى من أنيس منصور، خصوصا بعد أن ينفض حفل العزاء القومي المنصوب حول موته؟ وهل يمكن أن نضع كل ما كتبه في كفة مقابل كفة أخرى لإنجازات أستاذه عبد الرحمن بدوي الذي فتح طريق الكتابة عن الوجودية أمامه؟ لا أظن أن كفة أنيس منصور سترجح لو كان الميزان عادلا. وبالقياس نفسه، هل يمكن استخدام هذا الميزان العادل لنضع إنجاز أنيس منصور في الصحافة، إدارة وكتبا ومقالات ومناصب مؤثرة، في كفة تقابل كفة محمد حسنين هيكل الذي هو نقيضه، حتى في حساب المواقف؟ لقد ارتبط هيكل بعبدالناصر على أساس مبادئ محددة، فلما رحل عبد الناصر فشل هيكل في جذب السادات إلى المبادئ نفسها، فكانت القطيعة التى انتهت إلى سجن، ورغم ذلك ظل هيكل ملء سمع العالم، بينما أنيس منصور ظل قريبا من القراء العرب الذين يريدون التسلية، والكتابة الخفيفة التي تشغل الفراغ مع بعض المتعة التي تصنعها حيل الكاتب الذي يعرف كيف يضيف بهارات السياسة والحب ونوادر الملوك والأسفار.. هذا كل شيء. ولذلك يبقى أنيس منصور في مرتبة نديم الكبار. ولقد حضرت بعض جلساته مع بعض هؤلاء الكبار، واستمعت إلى الأسرار التي كان يكرر بعضها، خصوصا بعد أن تجاوز عامه الثمانين، أما غير ذلك، فهو ليس عبد الرحمن بدوي في الفلسفة، ولا هيكل في الصحافة، ولا طه حسين في النقد أو القصة أو حتى الترجمة، ولا توفيق الحكيم في المسرح، ولا أستاذه العقاد في موسوعيته أو إنجازه الشعري. إذن ماذا سيبقى من أنيس منصور؟! سوف تتذكره أجيال قادمة لا تحب القراءة الجادة. وسوف يتذكره الكبار (الوزراء والأمراء) الذين قربوه إلى مجالسهم بوصفه نديما لا غنى عنه لأمسيات الندامى والمسامرة. حتى كتبه، سوف يتناقص الإقبال عليها تدريجيا إلى أن يطويه النسيان. أما أنا الذي عرفته شخصيا وقرأت عددا من كتبه أمتعتنى في أول عهدي بالقراءة، فسوف أقول عنه: رحمه الله.