منذ أن بدأ الإنسان يعمر الأرض والمساحات الواسعة الشاسعة تضيق والأرض الخلاء تحدها الحدود ومياه الأنهار والبحيرات تسدها السدود، وبغض النظر عن المنفعة الاقتصادية أو حتى المنفعة السياسية أو غرض تحديد الملكية، إلا أن فكرة الحد أو السد أو الجدار الفاصل أو الساتر، المانع، فكرة قديمة الغرض منها الحماية والأمان ودفع البلاء أو حتى منعاً لمهاجمة الحيوانات الشرسة أو كل من يريد بالإنسان الأذى، ومع تطور الإنسان ازدادت هذه الحدود وضيقت المسافات التي تفصل هذا عن ذاك، وصغرت المساحات فحدود البيت الذي كان كمركض فرس، تغيرت عبر الأجيال، فبيت الجد يختلف عن بيت الأب، عن بيت الابن، أما الحفيد فبيته شقة معلقة في السماء، نفس هذا البيت سيصبح في مدن صاخبة عبارة عن غرفة مربعة لا تتسع للعب قطة غير مدللة· إن الحدود أو الجدران أو الحوائط تشكّلت مع الإنسان حتى أن بعضها مع الزمن أصبح مقدّساً وله مكانة دينية أو اجتماعية، وأذكر هنا كتاباً جميلاَ وفريداً بالعربية للصديق بدر عبد الملك بعنوان الجدار حيث تتبع قصة الجدار منذ تكونه وأهميته وقدسيته عند كل الشعوب، قديمها وحديثها، لكنه ونظراً لأنها دراسة عميقة، ظهر الكتاب في أكثر من ألف صفحة وكأنه في سمك الجدار· لكن الإنسان مع الوقت وتغير الظروف السياسية والاقتصادية وانهيار بعض الأيديولوجيات، حطّم جدران العزلة التي في داخله ثم حطّم الجدران والحدود والأسلاك العازلة، حدث هذا في برلين وجدارها الذي كان يفصل بين شرقها وغربها، وحدث في المعسكر الشرقي بعد انهيار الأيديولوجية السياسية، فتحطمت جدران السجون وإدارات القمع وحطّم الإنسان في هذه الدول حاجز الخوف فأسقط أحجاراً وأصناماً وتماثيل كانت تُمثل له جدران عالية من الرهبة والاحترام وإن كان في بعضه زائفاً· ويبدو أن الجدار أو الحاجز أو الحدود المانعة يبنيها الإنسان في وقت السلم وبهدوء، لكنها ما أن تترسخ وتتثبت، فإنها تحتاج إلى حروب أو انهيارات سياسية كبيرة أو زلازل تحدثها الشعوب الثائرة لا العوامل الطبيعية، فانهيار خط أو ساتر بارليف الإسرائيلي كان بحاجة إلى حرب مثل حرب أكتوبر وانهيار الخط الفرنسي ماغينو احتاج إلى زلزال الحرب العالمية الثانية، كذلك الأمر بشأن سجن الباستيل الشهير الذي احتاج إلى الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 م، ولو أنهم لم يجدوا فيه غير سجين واحد فقط· نتحدث عن هذه الحواجز لكثرة الحديث اليوم عن انغلاق الإنسان إلى الداخل وتحصّنه وتمترسه خلف هذه الحدود رافضاً الآخر ورافضاً حتى الانفتاح إلا عن بعد، فإسرائيل تبني جدارها العازل في الضفة الغربية، والكويت يقال إنها تبني ساترها على الحدود بينها وبين العراق والحديث اليوم يدور عن قيام المملكة العربية السعودية بتشييد (أنابيبها الحدودية) بينها وبين الكويت وبينها وبين اليمن، ولو اكتملت الصورة الفانتازية لهذا العمل سنجد خريطة العالم العربي كلها حدود في حدود، وليت هذه الجدران ستحل مشاكل الحدود العربية المستعصية، لكنها ستزيد العزلة وسنصبح سجناء هذه الحدود المترامية الأطراف، وقد تكون في يوم من الأيام من الجدران المقدسة عندنا··