حين عرض الدكتور ليو على إدارة الجامعة التي يدرس فيها في كاليفورنيا فكرة إنشاء فصل دراسي بعنوان “فصل الحب”، تعرض إلى سخرية الجميع، بمن فيهم زملاؤه المقربون، لكن الأستاذ كان مسكوناً بهاجس العلاقات الإنسانية التي ربما يكون لنشأته الثقافية، كرجل ينتمي لأصول مكسيكية، علاقة بالأمر، فهو يتذكر تماماً تلك الأسرة الكبيرة التي ينحدر منها، ويتذكر حفلات العائلة والمناسبات الدينية التي تتجمع فيها سلسلة لا تنتهي من الأخوة والأخوات والعمات والخالات وأبناء الأقارب الذين يملأون البيت ضجيجاً وغناءً وموسيقى!
كيف يمكن لإنسان أن يستمتع بالحياة منفرداً؟ كيف يمكن قضاء أوقات طويلة بلا عائلة وبلا محبة؟ هذه الأسئلة كانت تلح عليه كلما طرح أحد أسئلته الحائرة على طلابه الأميركيين الذين تربوا في أحضان مجتمع يقدس حريتهم، وفرديتهم، وخصوصيتهم، ويعتبرها الأولوية الاجتماعية والثقافية التي تتقدم على كل شيء .
حين فقد حماسته لهذه الثقافة، قرر ذات يوم أن يبيع سيارته، ويسحب رصيده من المصرف، وتقدم بطلب إجازة لمدة سنتين، وسافر إلى شرق آسيا، طاف بلداناً عدة، بحثاً عن إجابات لأسئلته الحائرة: ذهب إلى إندونيسيا وتايلاند وبورما والتبت، شاهد الفلاحين والعمال، والأسر التي تعمل في فلاحة الأرض بشكل جماعي، بقي شهوراً طويلة في بورما تحديداً، كانت الفيضانات تعم الأرض، وجهود الحكومة لإنقاذ الفقراء لا تكاد تذكر، ولهذا السبب هم ينقذون أنفسهم بذهنية الجماعة.
بقيت القرى والناس والمنازل، وكل الحياة، تطفو على سطح الماء ستة أشهر، صنع الناس أطوافاً من الخيزران ثم ألقوها على الماء، وسكنوا عليها، مستظلين بقطع بلاستيك كانت تحميهم من المطر، بينما ثلاث إلى 4 أسر تعيش على قطعة الخشب الطافية تلك، وزعوا العمل فيما بينهم، بشكل لم يشعر البروفيسور الأميركي أن هناك أسراً، بل أسرة واحدة، قال في نفسه: هذا ما نفتقده في أميركا روح الجماعة.
وبعيداً عن الدكتور ليو فقد حكت لي صديقة أن ابنها حين عاد من أميركا كان يتصرف بشكل غريب، وأحياناً مستفز، من دون أن يشعر بأي خجل أو ذنب، كان ما يفعله من وجهة نظره هو صحيح وطبيعي، أما من وجهة نظر والديه وإخوته فأمر معيب جداً، فنحن – كعرب وشرقيين – لا نتصرف بهذه الطريقة، كأن يشتري طعامه، ويأكله لوحده أمامهم، من دون حتى أن “يعزم “ عليهم، في المطعم أو المقهى يترك أخته تشتري وتحضر ما تريد، وتدفع من دون أن يبادر كرجل شرقي إلى أن يتولى هو إدارة الأمر، وأشياء أخرى مشابهة، قلت لصديقتي إنها مسألة وقت، وسيعود ابنك إلى قواعده الحضارية سالماً، لا تخافي، هذا تأثير أميركا عليه، لأنه عاش هناك طويلاً، وذهب إليها صغيراً.
كمجتمع عربي شرقي مسلم، لنا خصوصيتنا الثقافية، وهوية السلوك لدينا أمر في غاية الحيوية، وعلينا ألا نتنازل عنه حتى تحت أي مبرر، حتى وإن كانت العولمة والانفتاح والتغيير، لأن اليابان تغيرت وتعولمت، وكذلك فرنسا وألمانيا والدانمارك والصين، إلا أن الذاتية الثقافية ما زالت ماثلة في السلوك الفردي الياباني، في التفاصيل الحياتية للأسرة الصينية، في أفكار الإنجليزي، وفي صرامة الألماني الذي ينظر إلى العولمة الأميركية نظرة عدم رضى أو إعجاب، ويشاركه الفرنسي النظرة نفسها.
سلوك أبنائنا ليس خياراً بقدر ما هو مصير مجتمع وهوية أمة.


ayya-222@hotmail.com