سرعان ما أفسد أمبرتو إيكو خطة دار النشر. نظمت دار “بومبياني” حملة دعائية واسعة، تعلن إنها بصدد نشر طبعة جديدة من رواية “اسم الوردة” تناسب الجيل الجديد من القراء. رواية مختصرة، خالية من التعقيد اللغوي والبنائي. مثل هذا الخبر ـ لو صح ـ كان من شأنه أن يعيد صياغة إشكاليات كثيرة حول المنتج الإبداعي: هل من حق المؤلف إعادة النظر في نص كتبه ونشره أكثر من مرة بمقاربة جديدة أو صياغة جديدة؟ سؤال يستحق ألف إجابة، فكيف إذا كان الأمر، في حالة “اسم الوردة”، يتعلق برشوة؟ نعم، رشوة يغري بها الناشر، القراء الجدد لجرّهم إلى ميدان صعب.. فلنعترف أولا بأن “اسم الوردة” عمل مضني. أضنى أولا المؤلف طيلة خمسة عشر عاما حتى أنجزه، ونشره في العام 1980. ثم أضنى القراء المحترفين. أقرّ بأنني، طيلة سنة، فشلت ثلاث مرّات في تجاوز الصفحة رقم 50 من “اسم الوردة”، وفي المرة الرابعة استعرت إرادة المحكوم بالأشغال الشاقة حتى بلغت الصفحة 200، حيث انفتحت بعدها مغاليق الرواية. ولولا الفيلم الذي تم تنفيذه في العام 1986 بالعنوان نفسه ومن بطولة شون كونري، وإخراج الفرنسي جان جاك آنود، لظلت شفرات الرواية صعبة التفكيك. كتب أمبرتو إيكو روايته في حبكة بوليسية معقّدة، ويعود فيها إلى أحلك فترات المسيحية في القرون الوسطى. ففي أواخر سنة 1327 ميلادية، شهدت الكنيسة انشقاقات ومنازعات بين الكهنة والبابا. وفي ظل انتشار الفساد والرذيلة يصل المحقق السابق فرنشسكاني غوليالمو دي باسكارفيل برفقة تلميذه الراهب البندكتي أدسو إلى دير في شمال إيطاليا لإجراء مصالحة داخل الكنيسة. وبوصولهما يصطدمان بوقوع جرائم قتل مريبة ضحاياها من النسّاك، ويكون تفسير الرهبان لهذه الظاهرة هو وجود روح شريرة داخل جدران ديرهم، ولكن باسكرفيل يشك في هذا التفسير، ويقود تحقيقا صعبا لكشف الحقيقة، تتداخل فيه تهم الهرطقة، وسطوة محاكم التفتيش، وأفخاخ المجرمين والمرتكبين، إلى أن يتمكن في النهاية من فك ألغاز الجرائم. الغموض الذي يقود السرد، يتضاعف كلما أوغل المؤلف في تلك العوالم اللاهوتية والفلسفية والتاريخية، والتي تمتد على 500 صفحة (باللغة الإيطالية).. فهل كان إيكو معنيا بالتيسير على القارئ والتخفيف من جهامة الرواية؟ يسارع المؤلف إلى القول إن ما أشاعته دار النشر كان حيلة دعائية. فهو لم يعد كتابة الرواية، ولم يختصرها. بل بالعكس فإن الطبعة الجديدة تزيد 18 صفحة عن الطبعات السابقة، وإن جل ما فعله هو تنقيحها وتخليصها من هفوات كانت تسبب له الخجل. فهو تحدث في موضع عن الكمان، علما إن هذه الآلة الموسيقية لم تكن معروفة في ذلك الزمن بهذا الاسم وهذا الشكل. وفي موضع آخر أشار إلى الثواني، وهي قياس زمني لم يعرفه أهل العصور الوسطى. إذن فقد حرم أمبرتو إيكو، الأجيال الجديدة من “بحّارة الإنترنت”، وقراء الرسائل القصيرة، من صيغة مخففة من “اسم الوردة” تأتيهم في “كبسولة” سهلة الفهم والهضم.. لكن ما أثير حول هذه المسألة يستحق التوقف: هل تبقى الأعمال الروائية الخالدة بصيغتها الأصلية، تخاتل القراء الجدد وتعصى عليهم، أم يمكن أن يتولى محررون أدبيون مهمة اختصارها وتكثيفها لمن يستحقونها لكن الوقت يسحقهم؟ هل يأتي، مثلا، من يخلص رواية “الحرب والسلام” لتولستوي من 600 شخصية لكي يبقى في حبكتها الروائية مئة فقط؟ adelk58@hotmail.com